علي الظفيري
علي الظفيري
كاتب وإعلامي سعودي، وُلد في دولة الكويت في 19 أكتوبر 1975. حصل على بكالوريوس علم نفس تربوي من كلية التربية في جامعة الكويت عام 1997، ثم دبلوم إعلام من جامعة الملك سعود في الرياض عام 1999. عمل في جريدة الوطن السعودية في الفترة من 2002 إلى 2004، وإذاعة وتلفزيون المملكة العربية السعودية ما بين عامي 2000 و2004. يعمل حالياً كمذيع ومقدم برامج سياسية في قناة الجزيرة القطرية.

ممنوعٌ أن تقلق!

آراء

الإنسان بطبيعته كائن قلق، ومن دون القلق نفتقد المحفز والدافع لكل معرفة مضافة في حياتنا، وعبر مقدار القلق الذي ينتاب الفرد وطبيعته واتجاهاته يمكن لنا التنبؤ بالسلوك والمواقف المحتملة، يمكنك ببساطة أن تتوقع ماهية سلوك رجل أو امرأة يسكنهما القلق الكبير تجاه المال في قضية ذات بعد اقتصادي على سبيل المثال، وتستطيع بسهولة توقع سلوك أو موقف محتمل لأم تجاه ما سيتعرض له أطفالها، والحديث هنا عن القلق في حدوده الطبيعية وعن دوره كمحرك أساسي للسلوك البشري، المبدعون عادة قلقون بشكل استثنائي، وما تجاوز ذلك فيصنفه الأطباء النفسانيون علميا بالقلق المرضي إذ تنتاب الإنسان حالات خوف وهلع غير طبيعية ومجهولة المصدر.
يقلق الناس في عالمنا على حياتهم ومصادر رزقهم وأسرهم وأمنهم وخلاف ذلك، ويشكل هذا القلق دافعا للعمل على حماية المكتسبات القائمة أو إيجادها وتنميتها وتطويرها، لكن القلق في نطاق ومحيط الفرد وحده لا يكفي لدرء المخاطر وتحقيق الفوائد المرجوة، لا يمكنك أن تقلق وحدك في محيط بالغ التعقيد لتأمين حياة وتعليم وسكن جيد لأولادك، لا يمكن لقلقك منفرداً أن يوفر الأمن لعائلتك، فهذا يستلزم قلقا جماعيا أكبر يفضي إلى تنظيم هذه الحاجة وتوفير ما يلزم لتأمينها، مجتمع القبيلة على سبيل المثال يمارس القلق الإيجابي للحفاظ على حياته وحياة ما يلزم لبقائه، يقلق في البحث عن الماء والمرعى الخصيب والأجواء المناسبة والآمنة أيضا، كما أنه يقلق بشكل جماعي للتأمين على عاداته وتقاليده وأنماط حياته، ولا يمكن لقضية مياه الري وما تحتاجه الزراعة وتنظيم مواسم الحصاد والبيع والعلاقات أن تكون قلقاً خاصاً يُعنى به الفرد في المجتمع الزراعي، فهذه قضايا عامة تشغل حياة الجميع ويرتبط بها مصيرهم، ولا يحق لفرد حاكما كان أو منشقا ابتداع ما يمكن أن يعود بالضرر على البقية.
شكّل القلق الفردي أساساً للتنظيمات البشرية – ما فوق الفردية – التي نشهدها اليوم، بدءاً بمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والجمعيات السياسية وصولاً إلى مؤسسات الإعلام التي تلعب دور السلطة الرابعة في الدولة الحديثة، فهذه التكوينات مهمتها الرئيسية إدارة القلق العام لدى الأفراد إذا جاز لنا التعبير، الأحزاب السياسية تنوب عن الأفراد في إدارة الشأن العام بما يحقق المصلحة الفردية، وتقوم نيابة عنه – بعد أن يختارها- لمواجهة جملة المخاطر والمخاوف التي قد يتعرض لها الناس، مؤسسات المجتمع المدني تقوم بالدور ذاته في اتجاهات عدة، أمام السياسي المخول بالإدارة وأمام عموم المجتمع، ويأتي دور وسائل الإعلام – غير الحكومية – التي تراقب الأداء الكلي للجهازين التنفيذي والتشريعي وتحاسبهم وتكشف أخطاءهم أمام الأفراد، ثم تؤدي الترفيه كمهمة ثانوية وليس العكس كما هو حاصل لدينا.
في الفقرة سابقة اختصار شديد لما هي عليه الدولة الحديثة، وليس كل الدول بالطبع، فالدولة في عالمنا العربي من نوع مختلف، وحدها تقوم بكل شيء، أو هكذا تتوهم، تمنع الأحزاب والعمل السياسي، والسياسة في نظرها تهمة يساق الناس بسببها إلى السجن!، لذلك تنتشر مفردة «تنظيم سري» في مجتمعاتنا كإحدى الكبائر، ويقول لك أحدهم -يكون صحافيا في الغالب- سُجن فلان من الناس لأنه عضو في تنظيم سري!! ولأنه يريد الوصول إلى الحكم! ولكون الحكم غنيمة كبيرة في عالمنا العربي، ولأنه يعود بالمنافع دون تحمل المسؤوليات، ودون الخضوع للرقابة، لذا يحق لأهل الحكم أن يقاتلوا من أجله، ولا يكتفي بمنع الأحزاب فقط، تمنع الدولة المجتمع من تنظيم نفسه بنفسه، فهذه مهمتها المقدسة، كل شيء يتحول إدارة حكومية في عالمنا هذا، تتحكم الدولة في تفاصيله وتمسك كل خيوطه، الدين والثقافة والفن والرياضة والإعلام والرعاية الاجتماعية..إلخ.
الحكومة إذاً تفعل كل شيء، وهي تراقب عملها وتحاسبه، دواوين الرقابة والمحاسبة دون برلمانات، وهيئات مكافحة الفساد من الدولة وعليها! والحال هنا مطابق لبيت الشعر القائل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.
أما مجمل الأفراد الذين يشكلون معظم شرائح المجتمع، فلا يجدون لقلقهم الخاص والعام أي منفذ يسمح بالتعبير، ويحدث ما نراه اليوم في عالم الشبكات الاجتماعية، هناك تتحول المنابر المخصصة أصلاً للتعارف الاجتماعي إلى منتديات سياسية صرفة، ويصبح موقع تويتر برلماناً شعبياً تتم فيه محاكمة كل ما تقوم به الدولة، وتوجيه كل الانتقادات التي لم تسمح الحكومات بمرورها عبر ما تملكه أو تسيطر عليه من وسائل إعلام، إضافة لتجريمها العمل الحزبي والسياسي بشكل عام.
تحتكر الدولة القلق في مجتمعاتنا، وتمسك وحدها بزمام المسؤولية المطلقة عن تحديد المنسوب اللازم منه للأفراد، وما يجب أن نقلق بخصوصه وما لا يجب، وترمي في السجون ما يفيض عن الحد المقبول منه، وتحجب الصفحات التي يتسرب لها القلق غير النظامي، وتعتقد واهمة أنها بإعلامها – غير القلق أبداً – يمكن أن تقدم صورة بيضاء وناصعة خالية من أية شوائب، وهي بفعلها هذا إنما تسير في الاتجاه الخاطئ، غير مدركة للتجارب التي أثبتت أن القلق طاقة كبيرة، وكبته يولد طاقة مضاعفة عشرات المرات.

صحيفة العرب القطرية