ميل جيبسون: أخاطر فنياً لأتحرر من الخوف

منوعات

‫طوال الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2016 وخلال الشهرين الأولين من العام 2017، تردد اسم الممثل والمخرج ميل جيبسون كثيراً وطويلاً حول العالم.‬ فقد حضر مهرجان «فينيسيا» السينمائي الدولي في سبتمبر/أيلول وانتقل منه مباشرة إلى مهرجان تورنتو. السبب كان فيلمه الجديد (والأخير حتى الآن) «هاكسو ريدج» الذي لاقى استحساناً كبيراً في المهرجانين، ثم سريعاً ما ولج موسم الجوائز التي تنطلق في تلك الأشهر الخمسة المتتابعة.‬ ‬«هاكسو ريدج» الفيلم الحربي الذي قام بإخراجه وأسند بطولته إلى أندرو جارفيلد ومجموعة من الممثلين الجيدين الآخرين، بينهم أوجو ويفينج وفينس فون، كان بمثابة فيلم العودة بعد انقطاع طويل عن الإخراج بالنسبة له. فقبل عشر سنوات قام جيبسون بإخراج عمله الرائع «أبوكاليبتو» ثم مرّ عليه عقد من الزمان عانى خلاله مشاكل تسبب بها وتناولتها الصحافة بكل ما فيها من تناقضات واستنتاجات. فلقد ألقي القبض عليه مخموراً، فشتم السود وأكمل على اليهود، فهبت هوليوود تدين كلامه وقامت مراكز القوى فيها بشطبه من قوائم من تتعامل معهم. لم ينفع اعتذاره كثيراً، لكن جيبسون صبر وأخذ يقضم العراقيل واحداً تلو الآخر إلى أن عاد إلى الحضور متجاوزاً الأزمة بكثير من التصميم والثقة.

عودته إلى نشاطه، أو عودة النشاط إليه، بدأ قبل خمس سنوات فعلياً عندما تجرأت جودي فوستر على خرق قرار الحظر غير المعلن وأسندت إلى هذا الفنان الموهوب بطولة فيلمها The Beaver. لم يتح جيبسون للإعلام أن ينال منه. قدّم تمثيلاً جيداً دفع النقاد للإشادة به. في العام 2012 عمد إلى فيلم أكشن جيد التنفيذ بعنوان «أقبض على الأمريكي» (Get the Gringo) شهد رواجاً في بعض العواصم ونجاحاً كبيراً على الأسطوانات.

عامان بعد ذلك التقطناه أحد ممثلي فيلم «المستهلكون 3» (The Expendables 3)، السلسلة التي يقوم ببطولتها سلفستر ستالون. في الحقيقة تمثيل جيبسون كان الأفضل بين كل من جمعهم ستالون من وجوه معروفة بمن فيها هو نفسه.

«هاكسو ريدج» (Hacksaw Ridge) هو فيلمه الخامس مخرجاً بعد «رجل بلا وجه» (1993) و«قلب شجاع» (1995) و«عشاء المسيح» (2004) و«أبوكاليبتو» (2006).

وُلد في نيويورك سنة 1956 لكنه وجد نفسه وعائلته في أستراليا منذ مطلع الستينات. بعد أن ترعرع هناك وأخذ يظهر في الأفلام الأسترالية ممثلاً، فتح له المخرج جورج ميلر أبواب الشهرة واسعة عندما أسند إليه بطولة «ماد ماكس»، الذي أوصله إلى قمّة هوليوود منذ ذلك الحين.

إنها رحلة طويلة ومجهدة ولكنها في الوقت ذاته ناجحة. وهو لا يشكو على الإطلاق ولو أنه يعترف بأن النجاح لم يكن سهلاً وذلك على عكس ما يتصور الكثيرون.

الحقيقة والواقع

أمضيت عشر سنوات بعيداً عن الإخراج ثم عدت بفيلمك الحربي «هاكسو ريدج» ولديك عدة مشاريع تقوم بإنتاجها وإخراجها. لكن خلال تلك الفترة التي وجدت نفسك فيها محاصراً هل كانت لديك أعمال أخرى أردت تحقيقها؟

– طبعاً، دائماً عندي مشاريع عديدة لا تجد سبيلها إلى التنفيذ لماذا؟ لأنها لا تلقى قبولاً لدى شركات الإنتاج في هوليوود. كل فيلم من أفلامي السابقة كان عليّ تمويله جزئياً أو البحث طويلاً عن سبل تمويل أخرى. ولم يكن من بينها عمل واحد تميز بسهولة التحقيق.

بما في ذلك «العشاء الأخير للمسيح» و«أبوكاليبتو»؟

– بكل التأكيد. وبما فيها «هاكسو ريدج» أيضاً. وهذا لا علاقة له بالأزمة التي وقعت وكنت متسبباً فيها وضحية لها في الوقت ذاته.

كم تطلب إنتاج «هاكسو ريدج»؟

– ثلاث سنوات ونصف.

* هل تعتقد أن تأثير المشاكل التي وقعت لك كان لها نصيب كبير من تأخر تنفيذ هذا الفيلم؟

كنت سأعتقد ذلك لولا أن أفلامي السابقة، كما ذكرت، لم تشهد الوضع ذاته. اسمع، لقد كانت سنوات صعبة تلك الأخيرة. عانيت فيها وتسببت لي بنتائج لا يتمناها أحد. لأنه كان عليّ أن أبحث في نفسي وهذا ليس أمراً هيناً. وكانت صعبة لأن هوليوود لا تغفر مثل هذه الآراء التي أطلقتها. إلا أن السبيل الوحيد الذي كان أمامي هو المضي قدماً وأنا سعيد لأني وجدت هذا السبيل وأصررت عليه. وبالفعل كانت أغرب عشر سنوات في حياتي.

أين تلتقي حياتك الخاصة بأفلامك؟ شخصيتك الواقعية بالخيالية؟

ربما حين بدأت التمثيل كان الفصل واضحاً. أظن كان من السهل الجواب على هذا السؤال. في السنوات الأخيرة، وفي نطاق عملي كما في نطاق حياتي الخاصّة هناك ظلال مشتركة. ربما فيلمي ما قبل الأخير كمخرج «أبوكاليبتو» يحمل تلك الظلال. هناك أسئلة أعتبرها محورية ومهمّة بالنسبة لي حول الحياة على الأرض. والإنسان وطبيعته والظروف الاجتماعية وقسوتها عليه وقسوته على نفسه والآخرين. لا أستطيع القول إن هذه التساؤلات سينمائية محضة.

ما الذي وقف في رأيك وراء تلك الظروف التي تعرضت لها وأدت إلى عزلتك ولو لبعض الوقت؟

كانت مرحلة صعبة لها أسبابها ولها ظروفها ولا أريد الحديث في هذا الموضوع، لكن تجاوزت الضغط الناتج عنها بالحل الروحي كما بممارسات بدنية، مثل المساج لأصابع القدمين والحمّام الساخن أكثر من مرّة. لكن بصراحة هذه الحلول الطبيّة والبدنية لا تتساوى والحلول الروحانية. أعتقد أن الخلاص وراء كل أزمة عند كل فرد هو الحل الروحي.

هل أنت دائماً على علاقة روحية مع نفسك؟

معظمنا يشترك في مسألة بسيطة أصلاً: علاقتنا بالدين تقوى مع النضج ومرور السنوات. ولا أعتقد أنني كنت متحسساً للنواحي الدينية والروحانية حين كنت في العشرين أو الثلاثين من عمري. لكن الحياة تعلّمك أشياءً كثيرة وتدفعك في اتجاه من اثنين، إما أن تصبح أكثر تديّناً وبذلك ترتفع في داخلك المشاعر السامية التي لم تحسبها من قبل، أو تبتعد كليّاً وستمر تبعاً لذلك بأزمات مختلفة.

كيف استعدت سيطرتك على حياتك إذاً؟

في مثل هذه الظروف تصبح كل الحياة مختبراً. الحياة تعلّم المرء الكثير. أقصد أننا جميعاً نمر بظروف صعبة ونُبتلى بمشاكل تعلو عن طاقتنا أو تبدو أصعب من طاقتنا على حلّها. لكن هناك أشياء كثيرة تناوئ تلك المشاكل وتجعلنا على ثقة من أننا نستطيع تخطّيها. ربما تجارب أناس آخرين تجعلك تدرك بأنك لم تصل إلى الحضيض أو إلى مستوى لا يمكن الارتفاع عنه. هناك أشخاص لا يستطيعون مغادرة أسرّتهم. فقدوا الأمل في كل شيء وبعضهم ينام ليل نهار. لا يمكن أن تتعاطف معهم، بل تجد نفسك تنتقدهم وحين تفعل تستعيد ثقتك بأنك ما زلت أفضل حالاً مما كنت تعتقد.

فضول ورغبة

ما هو دور الفن في مثل هذه الأزمات العاطفية أو النفسية؟

– بالنسبة لي التمثيل والإخراج هما كيان واحد مؤلف من أجزاء متعددة من الشخصيات تندمج معها على نحو متلاحق فتؤدي في نهاية الأمر إلى حجم كبير من التجارب الشخصية. مثلاً حين ظهرت في «سلاح مميت» سنة 1987 وجدت في الشخصية التي مثّلتها شيئاً استهواني وهو حب الشخصية للمخاطرة بنفسه متحرراً من عقدة الخوف.

{ قبل هذا الفيلم قمت ببطولة الأجزاء الثلاثة الأولى من «ماد ماكس».

نعم. «ماد ماكس» كان هدية من السماء. لم أكن شاهدت فيلماً يشبهه. طبعاً الرغبة حينها هي المشاركة في إنجاز فيلم لا تؤمن به وحدك وعلى نحو شخصي وأناني، بل تؤمن به لجانب إيمان المتّصلين به. كلّنا كنا نعمل لإنجاز فيلم أكشن مختلف.

ما رأيك بالجزء الرابع «طريق الغضب» الذي قام توم هاردي ببطولته بدلاً منك؟

أعجبني كفيلم بكل نواحيه، لكني آسف. لا أتحدث عن زملاء في المهنة.

أعرف أنك تستطيع الغوص في أدوارك الخاصة، لكن هل تستطيع الغوص في أدوار سواك؟

غوص مختلف. أغوص في أدواري لأنها ستنقل شخصيتي السينمائية. كيف سأقحم نفسي على حياة الشخصية وأجعل الناس تتحدّث عنها وتقبلها وتتأثر لها أو بها. لكن حين يكون هناك فيلم جيّد لم أشترك فيه فإن اهتمامي به ناتج عن الفضول والرغبة في معرفة كل شيء. في بعض الأفلام ليس هناك داع لذلك. تشاهدها وتستمتع بذلك فقط.

سؤال أخير عن تلك الفترة الحرجة التي مررت بها. هل فكرت خلالها بالاعتزال؟

لا. في الواقع، أحب التمثيل ولا أستطيع التخلي عنه. لكنه حب مختلف عما كان عليه سابقاً. الآن أحبه حين أقوم به وحين أرى ممثلاً جيداً مثل أندرو جارفيلد يقوم به.

* هل «هاكسو ريدج» فيلم مع أو ضد الحرب؟

أنا طبعاً ضد الحروب بالمطلق، لكني في الوقت ذاته واقعي وأعلم أن المسألة ليست بالتمنيات والحروب وقعت وستقع دائماً. لا أقترح في الفيلم البحث عن حلول لها لأنها للأسف بلا حلول. فيلمي هو بالتالي معادِ للحرب لكنه لا يبحث فيها. ليس عندي صواب أو خطأ، بل واقع.

ذكرت صعوبات أدت إلى تأجيل تحقيقه لأكثر من ثلاث سنوات. كيف أتيح لك تمويله في النهاية؟

التمويل الرئيسي من أستراليا، لكننا بعنا الفيلم لاحقاً لأسواق عديدة واسترجعنا معظم ما صرفناه.

عنف الواقع

{ يبدو الفيلم مكلفاً…

على العكس، كان محدود التكلفة لكننا احتلنا لكي نجعله يبدو فيلماً بميزانية عالية. صورنا على مساحة ضيقة جدّاً. كل تلك الجبهة التي تقع فيها المعارك هي عبارة عن 70 متراً فقط. كنا، الطاقم الفني وأنا، محصورين في نحو خمسة عشر متراً.

كيف اخترت هذه المجموعة الكبيرة من الممثلين؟

بناء على قدراتهم التي أعرفها. شاهدت أفلامهم وأعلم قيمة كل منهم ثم هناك ما يقوم به كل مخرج في أي فيلم وهو التفكير بمنأى عن أي ضغوط عما إذا كان الممثل الذي يريده يتوافق مع الشخصية كما يراها.

الشخصيات اليابانية بقيت في الظل. لماذا؟

لأن الفيلم ليس عنهم بل عن الجنود الأمريكيين الذين كانوا يحاولون تحرير المنطقة وبالتحديد عن ذلك المجند الذي يرفض حمل السلاح ويكتفي بنقل الجرحى معرضاً نفسه للخطر.

بعض النقاد ذكر أن أفلامك كمخرج عنيفة. ماذا تقول حول ذلك؟

كلام متوقع. قالوا عن «أبوكاليبتو» و«قلب شجاع» كما عن «هاكسو ريدج». لكن كيف تستطيع تصوير الواقع غير ذلك. العنف في هذا الفيلم أو في سواه من أعمالي مبرر في نظري لأنه يعكس ما يحدث. لم أصور فيلماً عاطفياً أو كوميدياً وأضع فيه مشهد عنف. هو عنيف لأن الحرب كذلك. هل هناك معارضة للحرب أكثر من أن تصوّر عنفها؟، لا أعتقد.

المصدر: الخليج