عثمان ميرغني
عثمان ميرغني
كاتب في صحيفة الشرق الأوسط

من تونس إلى تركيا.. معضلة الإسلاميين والديمقراطية

آراء

بإجماع مختلف الأطراف بمن فيهم فريق المراقبين الأوروبيين، فإن الانتخابات البرلمانية التونسية كانت نزيهة وشفافة، وإن لم تخلُ من بعض التجاوزات التي لم تؤثر على مجراها أو شرعيتها. من هذا المنطلق فإن من حق التونسيين أن يسعدوا بتمكنهم من عبور امتحان ثاني جولة انتخابية منذ اندلاع ثورتهم التي أطلقت ما عرف بـ«الربيع العربي». كثيرون اعتبروا الانتخابات شهادة نجاح للديمقراطية التونسية الوليدة، أو شهادة احتضار للأحزاب الإسلامية بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر و«هزيمة» النهضة في تونس. آخرون اعتبروا أن رد فعل قيادة النهضة وتقبلها لحكم الناخب، يجعل تونس مثل تركيا في تقديم نموذج لإمكانية تكيف الأحزاب الإسلامية «المعتدلة» مع الديمقراطية.

التجربة التونسية تستحق بلا شك قراءة ونقاشا مثلها مثل التجربة المصرية أو التجارب الأخرى في المنطقة على اختلافها من السودان إلى اليمن، ومن الأردن إلى المغرب، ومن الكويت إلى فلسطين وذلك في إطار محاولة فهم «ظاهرة الإسلام السياسي» وإيجاد حل لكيفية التعامل معها بعدما باتت الأحزاب والحركات التي تتدثر بالدين، وتحاول فرض وصايتها عليه وفرض نهجها على الناس، تؤرق المنطقة سواء تدثرت بثوب الاعتدال أو التطرف.

نجاح الانتخابات الأخيرة لا يعني أن تونس تجاوزت مرحلة الخطر وامتحانات مرحلة الانتقال؛ فالديمقراطية لا تعني فقط صناديق الاقتراع وإلا لكانت هناك أنظمة ديكتاتورية بامتياز تزعم الديمقراطية لمجرد أنها تنظم انتخابات. وهي أيضا لا تعني أن بلدا ما أصبح حاملا لشارتها لمجرد أنه أجرى انتخابات سلمية وشفافة لدورتين متتاليتين وفق المعيار المختل الذي حدده صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات. الديمقراطية تعني توفر أجواء الحريات كاملة غير منقوصة، وتتطلب دورات متصلة من التداول السلمي الانتخابي على السلطة، وخضوعا من كل أطياف السياسة والمجتمع لقواعد الممارسة الديمقراطية، بشكل دائم ومستمر وليس بشكل موسمي أو تكتيكي.

الناخبون التونسيون انحازوا ضد حركة النهضة وصوتوا لحركة «نداء تونس» بسبب ما اعتبر إخفاقا من الحكومة السابقة التي لم تقدم حلولا للمشاكل القائمة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا واجتماعيا. هناك أيضا تونسيون خافوا من توجهات النهضة، وآخرون أقلقهم ظهور الجماعات المتطرفة وحوادث الاغتيالات السياسية فلجأوا بأصواتهم إلى المعسكر المناهض لحركات الإسلام السياسي. تونس على كل حال تبقى مختلفة عن دول «الربيع العربي» الأخرى وفي مقدمتها مصر، بسبب الإرث السياسي والاجتماعي الموروث من «دولة بورقيبة»، وقوة الصوت النسائي الذي ينظر بعين الشك إلى برامج حركات الإسلام السياسي التي تتعارض مع جوانب كثيرة في مدونة الأحوال الشخصية البورقيبية التي منحت المرأة التونسية وضعا لا يوجد في أي بلد عربي آخر. كذلك فإن البلد فيه أحزاب يسارية وعلمانية نافذة، وحركات مجتمع مدني قوية وناشطة، مما يجعل احتكار الإسلاميين للسلطة أمرا صعبا.

الذين يقولون: إن تونس الآن مثل تركيا تقدم نموذجا لإمكانية تكيف أحزاب الإسلام السياسي «المعتدلة» مع الديمقراطية، يحتاجون النظر بعين فاحصة لتجربة رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية في حكم تركيا. إردوغان سعى منذ تسلمه السلطة لإطالة إقامته فيها، وتغيير تركيبة «الدولة الأتاتوركية» بالتدرج لإنشاء نظام على مقاسه وهواه. ناور على الدستور لكي يبقى في الحكم، فلم يبتعد بعد نهاية الفترة المحددة بـ3 دورات في منصب رئيس الوزراء، بل خاض انتخابات رئاسة الجمهورية ليحل محل ساعده الأيمن السابق عبد الله غل. وجاهر بأنه سيجعل مهمته الأساسية تعزيز منصب رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة تجعله الممسك بزمام الأمور.

خلال بقائه الطويل في الحكم، سعى إردوغان وحزبه للتضييق على الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي في الفضاء الإنترنتي، وتدخل حتى في محتوى المسلسلات التلفزيونية. كذلك تصدى بعنف شديد للمتظاهرين في ميدان «تقسيم» مستخدما لغة التخوين والمؤامرات الخارجية. المفارقة أنه أعطى نفسه خلال السنوات الأخيرة دور البطل المدافع عن الربيع العربي، لكنه عندما واجه احتجاجات داخلية تصدى لها بكل عنف وشراسة. وهو اليوم يجعل تركيا مركزا وملاذا لحركات الإخوان في المنطقة وقياداتها وأنشطتها الإعلامية والمالية.

إسلاميو تونس الذين حصلوا على المركز الثاني في الانتخابات، ويبدي بعض قادتهم إعجابهم بالتجربة التركية، يبقون تحت مجهر الاختبار لا سيما مع سجل إخوانهم الآخرين في المنطقة الذين لم يثبت أي منهم حتى الآن إيمانا حقيقيا بالديمقراطية يتعدى المتاجرة الكلامية بها، بل أظهروا ميلا للاستبداد والعنف والتسلط، وليس مثال السودان غائبا عن الأذهان، ولا تجربة مصر القصيرة مع حكمهم بعيدة. الحكم عليهم كما على الآخرين سيعتمد على سلوكهم في المرحلة المقبلة، مثلما أن مستقبل التجربة التونسية سيعتمد على اقتناع الناس بأداء القوى السياسية وبأن الديمقراطية تمنحهم أملا في معالجة مشاكلهم، ولا تطعمهم فقط شعارات جوفاء وكلمات رنانة.

المصدر: الشرق الأوسط

http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=793542