موسى نعيم: أصولي تعود لليبيا.. ورئاستي لمجلة «فورين بوليسي» من أهم محطات حياتي

مقابلات

واشنطن: ممدوح المهيني

موسى نعيم رئيس تحرير السابق لمجلة «فورين بوليسي» لفت الانتباه إليه في دوائر صناع القرار في واشنطن بأكثر من كتاب عن «الشرق الأوسط»، ويعتبر نعيم، وهو من أصول ليبية، أن «القوة في عالم اليوم. من السهل الحصول عليها, لكن من الصعب استخدامها، ومن السهولة جدا خسارتها». ويقول إن رئاسته لـ«فورين بوليسي» ربما كانت من أهم محطات حياته».

ويضيف: «الأقوياء طوال التاريخ كان لديهم تلك الأسوار التي تحميهم من المتحدين والمنافسين. هذا صحيح في كل المجالات؛ السياسية والمالية وحتى الرياضية», ويشير في حواره مع «الشرق الأوسط» «إلى أن أحد التحولات المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة أن الأفراد أصبحوا الآن أكثر قوة من السابق. الأفراد أصبحوا الآن أكثر قدرة على التصدي أو المقاومة. أحد الطرق لتحقيق ذلك هو التنظيم». وجاء الحوار على النحو التالي:

* في كتابك الأخير «نهاية القوة» استوقفتني هذه الجملة التي ربما تختصر الرسالة التي تود إيصالها. تكتب «القوة في عالم اليوم. من السهل الحصول عليها، من الصعب استخدامها، ومن السهولة جدا خسارتها». هل يمكن أن تشرح لنا الطبيعة الجديدة لهذه القوة؟

– هذه بالفعل الرسالة الجوهرية من الكتاب. ما أعنيه هو أن الأقوياء طوال التاريخ كان لديهم تلك الأسوار التي تحميهم من المتحدين والمنافسين. هذا صحيح في كل المجالات، السياسية والمالية وحتى الرياضية. أنت قوي هذا يعني أنك تملك شيئا مميزا ومختلفا يحميك. على سبيل المثال، الجيش يملك القوة من خلال الأسلحة الحديثة التي يملكها أو المال الذي يستطيع فيه تحديث ترسانته، أما إذا كنت سياسيا فقوتك تكمن بكثرة مناصريك، وذات الشيء إذا كنت قائدا دينيا. لكن هذه الأسوار أو التحصينات التي تحمي الأقوياء لم تعد كما كانت في السابق. بات من السهل التحايل عليها أو حتى هدمها. وجاء الحوار على النحو التالي:

* هل تنطبق فكرتك «نهاية القوة» على مرحلة ما يمسى بـ«الربيع العربي». في كل الدول التي شهدت ثورات أو انتفاضات هناك فوضى عارمة، ولم يبزغ أي شخص يملك الكاريزما الطاغية أو القوة اللازمة؟

– القوة مشتتة في مصر أو تونس أو غيرهما من الدول. لا يوجد أحد بيده كل مفاتيح القوة. في كتابي أشرت إلى أن هناك نتائج إيجابية لهذا التحول في طبيعة القوة لأنها تسهم بخلق مزيد من الفرص للمواطنين والمستهلكين. كما أنها تنهي الاحتكار وتفتح الباب لصعود لاعبين جدد على المستوى السياسي أو الاقتصادي. ولكن من جانب آخر، لنهاية القوة أعراضها المضرة. إنها تخلق حالة من الفراغ. الكثير من الشخصيات والمنظمات لديها القدر الكافي من القوة الأمر الذي يمكنها من التصدي للآخرين، ولكن لا أحد لديه القوة الكاملة للحكم أو الإنجاز. هذا ما نراه أيضا في الولايات المتحدة حيث تصاعد الاستقطاب والتشاحن السياسي، وفي إيطاليا أيضا حيث لم تستطع الحكومات المتعاقبة من تشكيل تحالفات قوية مع أحزاب أخرى. الفرقة تسود والقوة موزعة، مما ينتج حكومات هشة. نشهد الأمر ذاته في بلدان الربيع العربي حيث تتوزع القوة على الجميع، ولكن لا أحد لديه القوة الكافية ليحكم وينجز. هذا بالطبع شيء سيئ، والحل الذي أقترحه في الكتاب هو أهمية خلق تصور جديد للأحزاب السياسية يسهم بحل هذه المعضلة.

* في هذا السياق ما رأيك بالأوضاع في سوريا. أذكر أنك قلت مرة إن سوريا تحولت لدولة فاشلة؟

– هناك خطورة في سوريا لأن تتحول لبلد مقسم إلى ثلاثة أجزاء، وكل قسم عبارة عن دولة فاشلة، من الصعب حكمها أو إدارتها. مرة أخرى، ليس لأحد القوة الكافية للإنجاز بينما اللاعبون الآخرون لديهم القدر الكافي من القوة المعرقلة.

* تقول: إن هناك ثلاثة أسباب أساسية أدت إلى نهاية القوة: الكثرة، الحركة، العقلية. هل يمكن أن تشرح لنا ماذا تقصد بذلك؟

– هذه القوى هي التي جعلت الأقوياء أقل قوة من السابق. الكثرة تعني الكثرة في أي شيء. هناك عدد أكثر من الناس على كوكب الأرض بشكل غير مسبوق، كما أن عدد السكان هو الأصغر تاريخيا. عدد سكان العالم اليوم هو الأكثر تمدنا بشكل أيضا غير مسبوق في التاريخ. لم تشهد البشرية أبدا أن الغالبية الساحقة منها تسكن في المدن وليس في القرى الصغيرة أو المزارع. مرت البشرية بوقت طويل من الزمن حتى يصل عددها في الخمسينات إلى ملياري نسمة، ولكن هذا الرقم قفز بشكل مذهل ليصل إلى الآن لسبعة مليارات. بالإضافة إلى عدد السكان الهائل، هناك كثرة في كل شيء. هناك كثرة في المعلومات، السفر، في التجارة، المال، الأدوية إلخ. عندما يكون لديك هذه الكميات الكثيرة من أي شيء، القوة تسعى للتحكم بها وهذا صعب جدا. برزينكسي قال مرة إنه من السهل أن تقتل مائة مليون شخص على أن تقوم بحكمهم. مسألة معقدة جدا خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ثورة الحركة وهذا السبب الثاني الذي تسبب في إنهاء القوة. الآن ليس لديك مشكلة فقط مع الكثرة، ولكن هذه الكثرة تتحرك كل الوقت وبلا حدود. الناس تتحرك طوال الوقت، المال والاستثمارات والتجارة والمنتجات والأسلحة والأوبئة والجماعات الإرهابية، كلها تتحرك من مكان لآخر. القوة الكاملة التي لا يمكن أن تعمل إلا من خلال حدود واضحة، خسرت جزءا هاما من عنفوانها بسبب هذا التحرك المستمر. هذا يقودنا إلى السبب الثالث وهو ثورة العقليات التي حدثت بسبب الكثرة والتحرك المستمر. في الثلاثين عاما الأخيرة حدث تحول عميق في القيم والطموح والتوقعات والعادات، وذلك عائد إلى تغير في طرق التفكير. الكثير من الأسئلة باتت تطرح الآن، ولم يعد من السهل إقناع الناس بالاعتماد على الطرق القديمة لأنه دائما هناك أفكار جديدة ومثيرة تظهر على السطح. الكثرة إذن تسببت بزيادة عدد المتحدين الذين غمرت أعدادهم الجدران الطويلة التي تحمي الأقوياء، أما ثورة الحركة فساعدتهم بالالتفاف حول هذه الجدران، أما ثورة العقليات فساهمت بهدمها تماما.

* تذكر في كتابك أن الشباب الآن أكثر قوة من السابق. وتضرب مثلا على ذلك بحركات الاحتجاج التي حدثت قبل عامين في وول ستريت؟

– أحد التحولات المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة هو أن الأفراد أصبحوا الآن أكثر قوة من السابق. الأفراد أصبحوا الآن أكثر قدرة على التصدي أو المقاومة. أحد الطرق لتحقيق ذلك هو التنظيم. هناك تزايد كبير في عدد المنظمات غير الحكومية على كافة المستويات وهي تبدو نشطة ومؤثرة. مثال على ذلك تيار حفلة الشاي في أميركا أو المنظمات التي نفذت حركات الاحتجاج في والت ستريت أو المنظمات المعادية للهجرة في أوروبا. جزء من نجاح هذه المنظمات وغيرها يعود لقدرتها على اجتذاب الشخصيات النشيطة والمتفاعلة، وهذا هو المفقود مثلا في التيارات السياسية الكلاسيكية التي لم تعد جاذبة ومغرية للشباب مثلا. لهذا أقول: إن على هذه التيارات السياسية أن تتعلم شيئا ما من هذه المنظمات النشطة.

* تؤكد في كتابك أيضا أنه حتى القوة العسكرية لم تعد بتلك القوة التي كانت عليه في السابق. تذكر على ذلك مثال القراصنة الصوماليين الذين اختطفوا أحدث السفن؟

– هذا مثال مهم يعكس ما أريد قوله. هؤلاء القراصنة يستخدمون زوارق متهالكة وأسلحة قديمة، ومع ذلك نجحوا في اختطاف سفن متطورة وحديثة. القوى الكبرى من أميركية وأوروبية وصينية وتركية، كلها لم تنجح في هزيمتهم وردعهم. هذا المثال يجعلنا نفهم أن القوة العسكرية باتت مقيدة. رغم كل الميزانية العسكرية الكبيرة للجيش الأميركي، فإنه لم يستطع الخروج منتصرا من حروب عدة خاضها.

* تتطرق أيضا أن الرؤساء حول العالم أضعف من أسلافهم. هل صحيح أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أقل قوة من الرؤساء قبله؟

– في إحدى المقابلات مع الرئيس أوباما، أشار إلى الصحافي الذي كان يجري المقابلة معه إلى حديقة صغيرة داخل البيت الأبيض وقال: إن الرئيس ريغان هو من طلب إنشائءها من خلال مكالمة هاتفية. هذا القرار البسيط جدا لا يمكن – كما يقول أوباما – أن يقوم به الآن. هذه القصة هي مجرد قصة رمزية لما أود التعبير عنه. بالطبع أنا لا أقول: إن الرئيس الأميركي أو الرئيس الصيني أو الروسي لا يملكون عناصر القوة، بل هم الآن أقل قدرة على استخدامها.

* ما تعليقكم على ما ذكره ولي نصر في كتابه الجديد «الأمة غير الضرورية» أو روبرت كيغان في «العالم الذي صعنته أميركا» يختلفان إلى حد ما مع رؤيتك فيما يتعلق بالقوة. فكرتهم باختصار هو أن الولايات المتحدة لديها القدر الكافي من القوة لتغيير الظروف على أرض الواقع والمحافظة على استقرار النظام الدولي التي ساهمت أميركا بخلقه في الستين العام الأخيرة؟

– هما يركزان فقط على جانب العلاقات الدولية والتأثير السياسي للولايات المتحدة، بينما كتابي يركز تقريبا على كل شيء. أنا أتحدث عن انهيار القوة في سوق المال والمنظمات العمالية والأحزاب السياسية وغيرها. ولكن لو قرأت بعناية كتاب كيغان مثلا ستجد أنه يعترف بحدود قدرة الولايات المتحدة على التأثير. مثلا في أميركا الجنوبية، قوة الولايات وتأثيرها بات مقيدا ومحدودا، بينما كان في السابق كبيرا ومؤثرا.

* وماذا عن مفهوم تحول القوة من الغرب إلى الشرق أو مفهوم القوة الناعمة الأكثر تأثيرا من القوة الخشنة؟

– هناك من يجادلون بتحول القوة المستمر من مكان لمكان، وهذا ما أسميه بمقاربة المصعد. هناك دائما قوة صاعدة وأخرى هابطة. هذا صحيح إلى حد ما، ولكن فكرتي الأساسية هي أن هناك انهيارا بطبيعة القوة. الجميع يخسر القوة أو قل الجميع من السهل عليهم أن يتحصلوا على القوة، من الصعب عليهم استخدامها، ومن السهل جدا خسارتها.

* بالنسبة لمجلة الـ«فورين بوليسي».. ما هي المواضيع المثيرة التي نشرتها وأهم المقالات التي تتذكرها؟

– وصلنا الآن لموضوعي المفضل وهو مجلة الـ«فورين بوليسي». كنت رئيسا لتحريرها لمدة أربعة عشر عاما، وفي تلك الفترة نشرت المجلة الكثير من المواضيع المثيرة التي لا يمكن نسيانها مثل «عالم بلا إسرائيل» أو «عالم بلا إسلام» أو «آيديولوجية التنمية» أو الموضوع المثير الذي كتبه المفكر صاموئيل هنتنغتون عن الزحف اللاتيني إلى الولايات المتحدة، وغيرها. تجربة ثرية وهامة. أليست كذلك؟

هناك ثلاث محطات أثرت في حياتي. حصولي على درجة الدكتوراه، ومن ثم عملي كوزير للتجارة في فنزويلا، وبعد ذلك رئاستي لتحرير مجلة الـ«فورين بوليسي». كنت فخورا بنشر مقالات أهم العقول حول العالم. لكن في الحقيقة المنافسة كانت محتدمة خصوصا مع مجلة مثل الـ«فورين أفيرز» الشهيرة، لذا كان هدفي الرئيسي في كل عدد من المجلة هو تقديم مواضيع مختلفة لا يستطيع القارئ أن يجدها في أي مكان آخر. عملية إعداد المجلة كانت تعتمد على الخلق وطرح أفكار جديدة غير مسبوقة. أتذكر أن ابتكرنا زاوية بعنوان «فكرة مرة أخرى» وهي تهدف إلى تغيير الفكرة السائدة لدى الناس عن شيء ما أو شخص ما، أتذكر أن هذه الزاوية تطرقت لقناة «الجزيرة» ولشخصيات سياسية مثل كوندوليزا رايس. صحيح، الزاوية حاولت إعادة التفكير في الأفكار المسلم بها لدى غالبية الناس ورؤيتها من زاوية جديدة.

* ماذا عن أغلفة المجلة، كيف كنتم تختارونها. أغلفة كثيرة مثيرة مثل الغلاف الذي يظهر وجه ماركس ولكنه مؤلف بقطع من الخبز؟

– أتذكر هذا الغلاف جيدا. كنا نحرص على أن يكون الغلاف مميزا وخلاقا حتى تدفع القارئ لشراء المجلة. في الواقع، العمل في مجلة الـ«فورين بوليسي» كان جماعيا، وكنت محظوظا بأن أعمل مع نخبة مميزة من الصحافيين والفنانين.

كان هناك أيضا القسم الخاص بالنقاش. حيث يتم فتح باب الردود ويقوم الكاتب بالرد على البعض منها كنا ندعو بعض الكتاب ممن يحملون وجهات نظر مختلفة لنقد المقالات المنشورة لدينا، ومن ثم يقوم الكاتب بالرد. كل كان ذلك بهدف التوضيح والإثراء وللمتعة أيضا.

* هل من ذكريات ما زالت عالقة بذاكرتك من هذه التجربة؟

– أعتقد أن نشر نسخة عربية من المجلة كان حدثا هاما بالنسبة لي. كنت على قناعة تامة أن المجلة ستلقى رواجا في الدول العربية لأن هناك تعطشا للأفكار الجديدة. أيضا لا أنسى فوزنا بجائزة الصحافة الدولية لثلاث مرات. حدث لا ينسى.

* سؤالي الأخير: اسمك موسى نعيم وقرأت أنك ولدت في طرابلس ليبيا؟

– نعم ولدت في طرابلس وهاجرت عائلتي إلى فنزويلا وأنا بعمر الرابعة. عائلة أبي وأمي تعود لأكثر من ستة أجيال في ليبيا.

* هل تتحدث العربية؟

– لا، ولكن أبي وأمي ما زالا يتكلمان العربية في فنزويلا. أستطيع أن أفهم ما يقولان ولكن لا أجيد التحدث بها. أحب الموسيقى العربية وخصوصا الحديثة منها. بالطبع بالبيت خلال نشأتي كانت الوجبات السائدة هي الوجبات الليبية الطرابلسية. حتى زوجتي الفنزويلية تعلمت أن تطبخ الأكل الليبي. سأدعوك يوما حتى نأكل الطعام الليبي اللذيذ.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط