مشعل القرقاوي
مشعل القرقاوي
كاتب ومحلل إماراتي متخصص في الشؤون الراهنة في المنطقة. بعد حصوله على البكالوريوس والماجستير في إدارة الأعمال (تخصص تمويل)، بدأ حياته المهنية كمصرفي كما قام بتأسيس شركة عائلية في قطاع البنية التحتية. وبعد كتابة عمود أسبوعي في الصحف المحلية، انضم إلى حكومة دبي وترأس ملف المشاريع الثقافية المعاصرة. يواصل مشعل كتاباته مع التركيز بشكل خاص على منطقة مجلس التعاون الخليجي بدولها ومدنها محللاً تحديات وفرص المنطقة الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

نحو فكرٍ إماراتي

آراء

تخيل معي رجلاً أميركياً في مدينة سان فرانسيسكو يشرب قهوته الصباحية وهو يطالع الجريدة في 4 ديسمبر 1971 فيقرأ خبر قيام دولة تحت مسمى الإمارات العربية المتحدة في الجزيرة العربية أو “أريبيا” كما كانوا يسمونها. أو تخيل يابانياً في طوكيو أو ألمانياً في فرانكفورت أو حتى دبلوماسياً بريطانياً -يعرف المنطقة جيداً- يقرأ الخبر ذاته. تخيل مدى استخفافهم (المنطقي) جميعاً بحظوظ خبر قيام اتحاد سباعي في الخليج العربي المحوط بصحراء مقفرة ومصالح متضاربة. وتجري الأيام وتصبح هذه الدولة ذات ثاني أكبر اقتصاد في محيطها العربي وذات بنية تحتية لا تُضاهى إلا من بُعد مئات الأميال وقوة دفاعية نوعية تنافس دولاً أغنى وأقدم منها بأضعاف وذات استقرارٍ سياسي لا يعرفه الكثير من أبناء الجوار، حتى أمست الوجهة المفضلة للعرب وغيرهم من أجل حياةٍ كريمة في مجتمعٍ يوازن بين انفتاحه ومحافظته. تلك هي معجزة الاتحاد.. أنه قام رغم كل الظروف الاجتماعية والتحديات الأمنية والتدخلات الاقتصادية والمؤامرات السياسية والسياق التاريخي. معجزة الإمارات أن كل المؤشرات كانت ضد استمرارها وهذا هو أحد أهم أسباب خصوصيتها التاريخية.

تمر الإمارات اليوم بتجربة مهمة في تاريخها تجد فيه تحالفاً إخوانياً ليبرالياً يعارض النظام متجاهلاً مجموعة إنجازاته الهائلة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعسكري لاختلافه معه على سرعة وماهية التطور السياسي للدولة. ويشترك شقا التحالف في كونهما مدعومين من تجمعات ومنظمات خارجية.. فأما الشق الإخواني فإن جل دعمه يأتي من أفرع تنظيم “إخوان المسلمين” في دول الخليج، بينما يأتي دعم الشق الليبرالي من قبل منظمات حقوقية أغلبها أجنبية.

ومنذ منتصف القرن الماضي والإمارات (سبع قبل الاتحاد، ودولة واحدة بعده) تعصف بها مختلف المدارس الفكرية لظروف مناطقية وعالمية مما كان يؤدي غالباً إلى قضاء مدرسة على شعبية مدرسة سابقة وهكذا دواليك، الأمر الذي أدخلنا في دوامات من ردات الفعل التي لم يُخفف وطأها إلا وسطية الوالد الشيخ زايد الحكيمة وإخوانه الحكام رحمهم الله، ومجموعة من أبناء الإمارات الواعين.

فبين الوصاية البريطانية وإنابة الولايات المتحدة لشاه إيران (أو شرطي الخليج كما عرف لاحقاً) لإدارة شؤون المنطقة ظهرت العروبية بشكل عام والقومية الناصرية بشكل خاص كردة فعل لهذا وذاك. وقبيل قيام الاتحاد بفترة وجيزة وصل المد الإسلامي بشكل عام والتنظيم الإخواني بشكل خاص إلى الإمارات. واستعاد هذا المد شعبيته (على خلفية نكسة حرب 67) كردة فعل للفكر القومي الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى ضغوطات سيادية توسعية على الإمارات. فقضى المد الإسلامي على سلفه القومي بشكل كبير واستولى على الخطاب الفكري في الإمارات. واستمرت هذه المرحلة حتى أوائل التسعينيات حين انتهت بتحرير أفغانستان وغزو الكويت وانقلاب أسامة بن لادن على بلده السعودية وتأسيس تنظيم “القاعدة”. ومن ثم كردة فعل دخلت دول الخليج كافة مرحلة النيو- ليبرالية الاقتصادية والاجتماعية وما صحبها من انفتاح على ثقافات مختلفة والتحرير التدريجي للاقتصاد وبروز ثقافة الاستهلاك من ترف مبالغ واقتراض ولا زلنا إلى حدٍّ كبير في هذه المرحلة.

لا يوجد عاقل يرفض التطور ولكن الأعقل هو ذلك الذي يصبو إلى التطور العضوي. فكيف نطالب أنفسنا بزيادة الإنتاج الثقافي والريادة الاقتصادية ومن ثم نقوم باستيراد نظام سياسي ابتُدِعَ وطُوِّر من قبل دول معينة في لحظة تاريخية معينة؟ نريد أن نتطور سياسياً ونريد أن نطور مستوى المشاركة، لكننا لا نريد أن نأتي بقوالب أجنبيةٍ جاهزة. لا ضير في أن أقرأ لميشيل عفلق أو حسن البنا أو جون ستيوارت ميل أو كارل ماركس من باب الثقافة العامة لكنها ستكون مأساة إن أصبحتُ مجرد ناسخ مطبق لمدارس هؤلاء المفكرين الأجانب. قدر أهل الإمارات أعظم من ذلك بكثير.. قدرهم ألا يستوردوا هذه المدرسة أو تلك بل أن يطوروا واحدة خاصة بهم تعكس واقعهم واحتياجاتهم وسياقهم التاريخي. تلك هي مدرسة زايد.

الكم الهائل من العمل ضد الدولة من تعدٍّ على رموزها ومؤسساتها وشعبها من قبل هذا التحالف المتمثل في قلة تـُوهم العامة بعلو صوتهم بأنهم كثرة والاستعانة بمنظمات أجنبية (ناهيك عن قيام البعض بتأسيس مراكز خاصة بهم في الخارج) للإساءة إليها لا يتماشى إطلاقاً مع طبيعة العلاقة الطيبة والإيجابية بين قيادة الإمارات وشعبها. لا يمكن أن يؤدي خلاف على سرعة التطور السياسي إلى تجاهل كل منجزات الإمارات الإنسانية والتنموية على مدى الأربعين عاماً الماضية.

يجب أن نستثمر هذه التجربة بكل مرارتها في الخروج من هذه الحلقة المفرغة من استيراد المدارس الأجنبية، وفي التركيز على ما يجمعنا لا ما قد يحاول أن يستغله البعض في تفريقنا. هذه هي الفرصة التاريخية التي تسنح أمامنا اليوم. فلنأخذ بزمام الأمور ونحافظ على مكتسباتنا ونتخطَّ هذه المرحلة راسمين ملامح مستقبل دولتنا على أساس معطياتها وسياقها. ودمتم ودام الوطن بوئام شعبه وقيادته.

المصدر: جريدة الاتحاد