نمطية التفكير والريادة

آراء

لطالما تم تلقيننا بأنه حتى نصل للريادة لا بدّ لنا من تسخير التخصّص وتوظيف الموارد البشرية وفقاً لذلك التخصّص، وبأن هذا هو المسار الوحيد نحو الريادة ومراتب الاستدامة العليا. وبصورة عامة فقد تم تأسيسنا بأن الشهادة العلمية هي مفتاح الريادة وليس نوع المعرفة المكتسبة – وإن كانت خارج الإطار الأكاديمي التقليدي- وأن المتخصّص في الطب أو الهندسة على سبيل المثال حتى يبدع ويصل للريادة لا بدّ له من الالتزام بالتخصّص الذي درسه، وأن لا يتصور نفسه متفوقًا في مجال آخر.

ومن غير المعقول أن يعيد الإنسان توجهاته، وإنْ كان اختياره لذلك التخصّص أو الوظيفة مخالفاً في الأساس لميوله الطبيعية للمجال الذي قد يبدع فيه ويفوق فيه كل التوقعات، وليس فقط أن يتقنه ويصبح محترفاً فيه، وهنا تكمن الإشكالية وما هي القيمة التي نتحدث عنها ليل نهار كمجتمع عربي ومسلم، هل هي ثقافة الحياة أم ثقافة الموت؟ وهل هي ثقافة الريادة كمفهوم وممارسة صمّاء أم كفكر يهدم الانتظار المعرفي؟ وهل نقبل بتصادم الأفكار وإتاحة الفرصة لأن يكون للعقل فاعلية نقدية وليس جهاز تسجيل يعيد ما يسمع؟ أم نبدع حصرياً في تقديس النمطيّة والسبات في دائرة ومساحة الراحة والاعتيادية في النظريات العلمية؟ ولا سيما أن الريادة تتطلّب مخالفة النسق السائد والخروج عن الطابور والتفرّد.

فالأسماء لا حصر لها عندما نتطرّق إلى الرواد الذين دفعهم شغفهم ورغبتهم الدفينة والتلقائية لأن يتركوا بصمةً لا تُنسى في مجال الفكر والأدب، والفن والتاريخ والتعليم والإعلام وغيرها من التخصّصات. وعلى المنوال نفسه نجد أن قيادات وعباقرة ورواد الكثير من العلوم والنظريات الحديثة، وأكبر اختراعات وتطبيقات وشركات التكنولوجيا والاتصالات هم أشخاص جاؤوا من تخصّصات ليس لها علاقة بالمجال الذي أبدعوا فيه، وتفوقوا فيه على أبناء التخصّص والمهنة ومنهم حتى من لم يكمل تعليمه الجامعي. ومن الأمثلة على ذلك «جريجور مندل» مؤسس علم الوراثة، والسياسي البريطاني الشهير والفائز بجائزة نوبل للآداب السير «ونستون تشرشل»، و«الأخوان رايت» مخترعي الطائرة، و«توماس أديسون» الذي سجلت له 1003 براءات اختراع لم يلتحق بالمدارس سوى لثلاثة أشهر فقط، وبدوره رسب «آينشتاين» في امتحان الدخول إلى الجامعة.

وكيف لنا أن نفسّر أن أكبر عظماء التاريخ في مختلف العلوم لم يدرس بعضهم في نظام تعليمي، ولم يحصل آخرون منهم على أكثر من شهادة الثانوية العامة أو ما دون ذلك على شاكلة«محمود درويش»”، و«الجواهري» و«العقاد» و«خليل جبران»، و«طاغور» و«فاغنر» و«همنغواي» و«بيكاسو» و«تولستوي»، وآلاف المبدعين في شتى العلوم، ولذلك لا يجب أن يكون عدم الحصول على تأهيل أكاديمي عائقاً دون حصول الجميع على فرص متساوية ليكونوا رواداً ويصنعوا فارقاً ريادياً.

ومما سبق ذكره، من المهم إعادة النظر في التعلّم والتعليم وجعل كل أفراد المجتمع من مختلف الفئات العمرية باحثين عن المعرفة، وإتاحة الفرصة لهم لمعرفة مكامن القوة لديهم وميولهم الحقيقية للبروز فيما يبرعون فيه، والتدريب والتأهيل المستمر على مدار الساعة، وترغيب السكان في الريادة، ومراجعة أو استحداث أنماط تفاعلية لاكتشاف العناصر الرائدة في كل مناحي الحياة، وقبول الموظفين والتوظيف وفق الميول التلقائية للشخص والقابلية للتعلّم في مجال ما، وعدم التسليم بأن الشهادة أو الخبرة أو الاثنتين معاً تضمنان الإبداع والريادة، فأشهر علماء علم النفس على سبيل المثال هم من الأطباء ولم يكن أحد منهم متخصصاً في علم النفس، وأشهرهم «فرويد» والطبيبة الإيطالية «ماريا منسوري» والطبيب البريطاني «توماس يونغ»، ولذلك فالمنهج التجريبي يأتي بأفكار جديدة لمن خلت أذهانهم من هذه الأفكار وهو لا يفيد إلّا في توجيه أفكار موجودة، ولهذا فإن ما نعرفه هو ما يعيق مسلك الريادة والإبداع وليس ما نجهله، فالتقدم العلمي هو إزاحة نظريات لتحل محلها نظريات تتضمن عناصر قد تكون غير عقلانية أو مسوغة.

فلا يجب أن يسيطر على الساحة العقل غير المنتج للأفكار الأصلية غير المسبوقة ويجد المقاومة ممن هم عكس ذلك.

المصدر: الاتحاد