“وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ”

آراء

خاص لـ هات بوست:

لفت نظري ما يقوله الراوي لفيلم وثائقي عن أميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر، ضمن الحديث عن الظروف الاجتماعية، ما معناه أن سفر المرأة بمفردها في ذاك الزمان والمكان لم يكن مقبولاً، إلا إذا كانت المرأة سيئة السمعة، حيث وجود قطاع الطرق واللصوص يعد أمراً مألوفاً.

ورغم اختلاف الأعراف بين مجتمع وآخر إلا أنها متشابهة نوعاً ما وتتبع للظروف المحيطة، وفيما أتاح تطور وسائل المواصلات والاتصالات، في عصرنا هذا، الكثير من السهولة في التنقل وحد كبير من الأمان، على الأقل بين المدن الرئيسية بشكل عام، باستطاعتنا تقدير ما كانت عليه الأحوال في القرن السابع الميلادي في شبه الجزيرة العربية، حيث يغدو من المحتم إصدار قانون “لا سفر للمرأة إلا مع محرم”، لدرء الأذى لا لثواب أو عقاب.

وإذ تأخذ الأعراف شكل القوانين الرسمية أو الاجتماعية، فإنها تتبدل وفق اعتبارات متعددة، إذ غيّر انتشار وباء مميت الكثير من أعراف المجتمعات، ففرض قوانين وعادات جديدة، لعلها كانت أشد وضوحاً في المناسبات، السعيدة والحزينة على السواء، كذلك فإن الأعراف قبل الحروب ليست كما بعدها، وهكذا.

وبنظرة خاطفة يمكننا ملاحظة المرونة التي تحلى بها الإسلام، مع اكتماله برسالة محمد (ص)، وما تميزت به تلك الرسالة من عالمية تضم تحت مظلتها الناس جميعاً، وخاتمية بحيث تصلح لمختلف الأزمان، اختصرها قوله تعالى مخاطباً الرسول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف 199)، فأي مرونة أكثر من أن تتخذ العفو أساساً للتعامل، ومن ثم تشرع وفقاً للعرف المناسب لمجتمعك في ظل زمان ومكان معينين، مع الأخذ بالاعتبار الخطوط العريضة التي يمكنها أن تشكل المرجعية الأخلاقية لأي مجتمع، وهي بنود الصراط المستقيم التي ندعو الله أن يهدينا إليه، فإذا تركنا الإيمان بالله ليكون من اختصاصه سبحانه، هو فقط من يحاسب عباده عليه في الآخرة، رأينا أن كل البنود الأخرى لا يختلف عليها اثنان، نظرياً على الأقل، ابتداءً من الإحسان إلى الوالدين وحتى عدم قول الزور، مروراً بعدم ارتكاب الفواحش وقتل النفس، وتدخل من ثم كل مجتمعات أهل الأرض تحت لواء هذا الدين العظيم، حتى لو لم يعلموا ذلك.

والرسول (ص) أمر بالعرف، فشرّع لمجتمعه بما يتناسب مع ظروفه، وهذا ما فعله الأئمة الأكارم من بعده، والأسوة الحسنة هي أن نأمر بالعرف الملائم لظروفنا، لا أن نتمسك بذاك العرف، وهنا يحضرني نادرة تحكي عن طفل أوصاه الطبيب بالامتناع عن الكلام بعد عملية استئصال اللوزتين، فأبى أن يتكلم نهائياً، حتى أعاده أهله للطبيب ليقول له: تكلم يا بني لا حرج عليك، ونحن أيضاً بحاجة للشافعي أو أبي حنيفة ليقول لنا: شرعوا لأنفسكم لا حرج عليكم.

رب قائل هنا: “وأين شرع الله؟”، وباعتبار شهر رمضان موسم لقراءة التنزيل الحكيم، فلعلنا نتريث قليلاً لنتدبر الآيات بدل السرعة لإنهاء “الختمة”، والمتدبر سيجد أن شرع الله ينوس بين حدود دنيا وعليا، قوامها الأخلاق الكريمة، وأساس العلاقات الرحمة والمساواة والمودة والمعروف والإحسان، ولا عنصرية ولا تمييز بين أجناس وألوان، والتفاصيل ترك لنا البت فيها، أما من يريد الاجتزاء لصالح توجيه التهم للإسلام أو لدعم مجتمعات ذكورية تمارس كل عقد نقصها على النساء، فيمكنه حينها استغلال مفردات بعينها للتقول على الله.

والمتدبر سيقرأ قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل 89) ففي أمور ديننا كل شيء موجود في هذا الكتاب، وكل ما يريد الله تعالى قوله لنا قد قاله، وإن ترك بعض الشعائر للرسول، فهي لا تحتاج لموسوعات، أما الدنيا فلو عاد صلى الله عليه وسلم اليوم لقال لنا: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، ولاستنكر ما يراه من ظلم باسمه للعباد.

اليوم نحن بحاجة لمشرعين خبراء بعلم الاجتماع وعلم النفس والحقوق والقوانين، لديهم إحصائيات يمكنهم من خلالها سن تشريعات، تفرض أعرافاً جديدة، بحيث لا يظلم الناس بناءً على أعراف مجتمعات أكل الدهر عليها وشرب، ولا تحرم إمرأة من حقوقها لأن نظيرتها في القرن السابع عاشت في ظروف مختلفة لها أعرافها.