«يو إس إس إنديانابولس: الرجال البواسل» يكشف خفايا السياسة الأمريكية

منوعات

لا تحتاج إلى كلمات كثيرة كي تختصر إحساسك وأنت خارج من الصالة بعد مشاهدة فيلم «يو إس إس إنديانابولس: الرجال البواسل». تكفيك حالة الذهول التي تعيشها طوال ساعتين وعشر دقائق، وأنت مشدود للأحداث، ولا يغيب عن بالك ولو للحظة أن القصة حقيقية، وأنك تشهد واقعة عاش مرارتها العالم عام 1945 خلال الحرب العالمية الثانية.

ميزة الأفلام المستندة في قصصها إلى حكايات من الحياة، أنها تمدك بإحساس مختلف يولد فيك منذ ما قبل المشاهدة، ويبقى يدق جرساً في داخلك طوال الوقت، فتكون أكثر تعاطفاً وأكثر تأثراً بالأحداث والشخصيات. كأن الفيلم ينبض بالحياة، وأنت ترى شيئاً من التاريخ أمامك تاريخ البشر، وليس التاريخ المرهون بالسياسة والحروب فقط، ما يحمّل فريق العمل مسؤولية أكبر، ويتطلب مهارات عالية في نقل الواقع إلى الشاشة ليصدقه الجمهور ويُقبل عليه.

هذا الإحساس يرافقك وأنت تغوص مع تلك المغامرة التي عاشها رجال «إنديانابولِس» عام 1945، في أسوأ كارثة في تاريخ سلاح البحرية الأمريكية. الفيلم المصنف «أكشن وحرب»، يتضمن الكثير من المشاهد الدرامية المؤثرة، لا بهارات فيه لزيادة جرعة الأكشن والإثارة، لأن القصة بحد ذاتها مأساة حقيقية، يكفي أن ينقلها المخرج كما حصلت إلى الشاشة كي ترتعش لها الأبدان، وكي تتوقف العقول أمام مجموعة من الأسئلة «السياسية»، و«الإنسانية» الملحّة، والإجابة تأتي ضمنية ولا حاجة لتفسير أو تحليل.

أكثر من اسم يحمله هذا الفيلم الأمريكي، فإلى جانب «يو إس إس إنديانابولِس: «رجال الشجاعة»، أو «الرجال البواسل»، تم عرضه في الفلبين تحت اسم: «يو إس إس إنديانابولِس: كارثة بحر الفلبين» لأن حادثة غرق البارجة وقعت في بحر الفلبين. القصة التي تهمنا جميعاً، تمس الشعوب الأمريكية واليابانية والفلبينية خصوصاً، حيث تتناول حكاية البارجة الحربية التي كانت تعتبر جوهرة السفن الأمريكية، «يو إس إس إنديانابولِس» التي حملت على متنها القنبلة النووية، خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أسبوع من إلقائها على هيروشيما.

الكارثة لم تنحصر بإلقاء القنبلة النووية فقط، بل عرفت معها أمريكا كارثة أخرى بغرق البارجة، وقد أبقت الخبر طي الكتمان وأخفت ملفات كي لا تضج بها الصحافة، ولأن البارجة كانت تقوم بمهمة سرية جداً، وتحت أمرة الرئيس الأمريكي مباشرة.

ونظراً لضخامة البارجة، لا بد من أن ترافقها في مهماتها الحربية غواصات وسفن استكشاف تنذرها في حال وجود غواصات معادية في أعماق البحار، وهو ما تعجز عن كشفه البارجة العائمة على سطح المياه. لكن هذه المرة، تم الاتفاق «سياسياً» على تكليف «يو إس إس» بمهمة غاية في السرية، يتابع تحركها الرئيس الأمريكي بنفسه، ولا ترافقها أي غواصة أو حماية.

قبطان البارجة تشارلي ماكفاي (نيكولاس كيغ) أبدى قلقه من الانتقال إلى بيرل هاربر من دون أي تأمين، وأي وسيلة للاستكشاف، لكنه لم يكن يملك سوى التنفيذ. أوكل إليه حمل صندوق محكم الإغلاق من دون أن يحق له الاطلاع على ما بداخله، وتسلم رسالة طُلب منه أن يفتحها بعد أن يصير في عرض البحر. انطلقت البارجة في 26 يوليو/‏تموز 1945 وعلى متنها نحو 1197 بحاراً من ضباط وجنود، والقبطان يحمل رسالتين غريبتين، الأولى موضوعة في صندوق خشبي ضخم، والثانية ورقية ينتظر فتحها ليفهم ما الذي يحصل.

في المقابل، نرى الغواصة اليابانية تراقب وتتربص بقيادة القبطان هاشيموتو، لتضرب ضربة قاضية وتحقق نصراً تاريخياً، ولكن الضربة جاءت بعد تسليم «يو إس إس» القنبلة النووية وهي في طريق العودة في 30 يوليو/‏تموز. لم يملك القبطان ماكفاي أي وسيلة لحماية البارجة ولا الطاقم على متنها، ولم يستغرق غرق البارجة أكثر من 12 دقيقة فقط، بعد إصابتها بست قنابل.

الفيلم يقدم الحدث بأبعاده السياسية والإنسانية، ويكشف حقائق بقيت طي كتمان أجهزة المخابرات. كارثة تعتبر نقطة سوداء في ملف السياسة الأمريكية، ورغم ذلك عرفت كيف تتنصل منها، وتجد كبش فداء. كل الأحداث تخبرك بأن الأجهزة الأمنية والمخابراتية الأمريكية مستعدة للتضحية بالبشر والحجر، برجالها وجنودها من أجل تحقيق أهدافها، وكان الهدف يومها إنهاء الحرب والانتصار على اليابان من خلال إلقاء قنبلة هيروشيما. أبرياء كثر راحوا ضحايا هذا القرار، ومنهم ضباط وجنود «يو إس إس» الذين بقوا في عرض البحر أربعة أيام بلا أي نجدة، إلى أن رآهم صدفة من طائرته البرمائية الملازم أدريان ماركس فطلب النجدة وتولى إنقاذ الناجين ال 317 في حين مات 879 معظمهم نهشتهم أسماك القرش.

تلك المعاناة تعامل معها المخرج ماريو فان بيبلز (عرفناه ممثلاً في أفلام عدة منها أداء دور مالكولم إكس في فيلم «علي»، وأخرج الكثير من المسلسلات والأفلام ونال جوائز) بحس إنساني لا بأبعاد تقنية. ركز كثيراً على الوجوه، عكس الحالة النفسية والرعب. قوارب النجاة الصغيرة ساهمت في إنقاذ مجموعة منهم، فتحلقوا حولها وبدا المشهد من تحت الماء كأنهم أسماك تلتف حول طعم، والقرش يخطط للحظة الانقضاض عليها. علماً بأن ماريو لم يصور بشاعة لحظة التهام الجنود، مفضلاً إيصال الرسالة الإنسانية على الإثارة السينمائية.

كل الحكاية إنسانية، وهي تستند إلى كتاب دوغ ستانتون «في سبيل الأذى: غرق يو إس إس إنديانابولس وقصة غير مألوفة للناجين»، كذلك لجأ كام كانون وريتشارد ريوندا ديل كاسترو إلى قصص رواها ناجون ما زالوا أحياء حتى اليوم، وقد التقى فريق الفيلم بعضهم. حكاية فيها الكثير من المآسي، لكنها لا تخلو من الفرح، وقصص الحب والرومانسية الناعمة، والصراع الأزلي بين «البيض والسود».نيوكلاس كيج صار نجم القصص الحقيقية، وقد أدى دور القبطان ماكفاي بكثير من التعاطف، ورغم كل الرعب الذي عرفه وسط البحر، يبقى مشهد لقائه بالقبطان الياباني هاشيموتو الذي تم استدعاؤه للشهادة في قضية غرق البارجة ومحاكمة ماكفاي فيها، من أجمل مشاهد الفيلم، حيث يتبادل الرجلان التحية العسكرية وفي عيونهما غضب وحزن، كره وأسف، تناقض مشاعر بين الفخر بأداء الواجب أثناء المهمة العسكرية – الأمريكي سلم قنبلة نووية لتدمير هيروشيما، والياباني ضرب البارجة البحرية وتسبب بمقتل 879 إنساناً- وبين الحزن الشديد حتى البكاء والندم كرجلين أجبرا على أداء مهمة غير إنسانية، ولم يملكا سوى التنفيذ.

من المحطات التي تستوقفك، بعض العبارات مثل «الحرب مفيدة للأعمال، والأعمال مفيدة لأمريكا»، والفرق بين المقاتل والانتحاري، أن الانتحاري يدرك أنه يقاتل ليموت، بينما المقاتل يريد أن يعيش. كذلك البحث عن كبش فداء كي تخرج من القضية القيادة الأمريكية «غير مذنبة ولا متهمة»، ومحاكمة القبطان ماكفاي باعتباره مذنباً. الفيلم إنتاج مشترك بين شركتي «هنيبعل» و«باتريوت بيكتشرز»، بتكلفة 40 مليون دولار.

أجداد وأحفاد شهود أحياء

من المفارقات أن يشهد الفيلم وجود الأجداد وأحفادهم. فمن بين المشاركين في البطولة إلى جانب نيكولاس كيج، وتوم سيزيمور، وستان هوستون، الممثل الشاب مات لانتر وهو حفيد كينلاي لانتر أحد المجندين الناجين. مات ارتدى زي جده ووضع شارته ليعيش المأساة نفسها، بعد سبعين عاماً من وقوعها. كينلاي توفي عام 2013 عن 88 عاماً قبل أن يرى الفيلم. من الناجين أيضاً، غرانفيل كراين الذي ما زال على قيد الحياة وقد شاهد حفيده جوني كراين يشارك في الفيلم.

هفوات غير صغيرة

صحيح أن المخرج لم ينشغل بالإبهار التقني وركز على القصص والصورة البسيطة، لكنه ارتكب هفوات غير صغيرة، مثل تركيزه على مجموعة صغيرة من الناجين، ما أوحى لنا بأنهم قلة ضئيلة، بينما فوجئنا لاحقاً بأن عددهم 317. لم نفهم كيف يمكن لكتاب، وقلم أن يبقيا صالحين وسط هذه الكارثة، والمياه المالحة، ويستخدمهما جندي ليكتب قصة؟ كما غاب عن المخرج إطلاق لحى الرجال، وتغيير سحنة مجموعة منهم وفق تعرضهم للعوامل الطبيعية من برودة شديدة، وأشعة شمس حارقة.

في الإمارات قبل أمريكا

«إنديانابولس» من الأفلام الأمريكية القليلة التي تتسنى لنا مشاهدتها في الإمارات قبل انطلاقها في الصالات الأمريكية، حيث بدأ عرضه محلياً منذ الخميس الماضي بينما يعرض بعد غد في أمريكا. أياً كان تصنيفه في شباك الإيرادات، إلا أن العمل الذي أخرجه المكسيكي ماريو فان بيبلز، وكتبه كام كانون، وريتشارد ريوندا ديل كاسترو، من الأفلام التي نحب مشاهدتها لعمقها من حيث القصة والمعاني، ومباشرتها في الحوارات والأحداث، ورسائلها السياسية والإنسانية الواضحة، وأخيراً لأنها تحكي عن حقبة مهمة من التاريخ المر الذي عاناه العالم.

المصدر: الخليج