مروان البلوشي
مروان البلوشي
كاتب إماراتي

تحولات مصر الموعودة

آراء

يتجسد التاريخ في مصر كائناً حياً ذي قدرة أبدية على مواصلة المنشط البشري على ضفاف النيل والأهم من ذلك القابلية لإجتراح تحولات مفصلية في مسيرة الثقافة المصرية بل والعربية كذلك. تحولات لا تبدو واضحة في سماء المرحلة الإنتقالية التي تمر بها مصر حالياً. المرحلة الإنتقالية التي تموج بصراعات حية ويومية على شكل الدولة، تلك الصراعات تبدأ من الاستحواذ على كعكة قطاعات وأجهزة الدولة الصلبة إلى جدل بيزنطي ولكن صحي أيضا يتردد صداه عبر الإعلام المصري حول هوية الدولة وماهية الفكرة التي تقف خلفها.

يجب علينا أن ننتبه هنا إلى أن التاريخ إذ يصنعه البشر سواء بأفعالهم المتراكمة أو بهباتهم المفاجأة التي لا تعرف اللونين الأبيض والأسود فحسب، بل تتخللها الكثير من الظلال المواربة والمناطق الرمادية بين المثاليات التي تحرك جماهير الناس وينّظر لها المشتغلون بالسياسة والفكر ووقائع الحاضر، ونقصد هنا حاضر العرب بكل مافيه من احتقانات اجتماعية واقتصادية وسيناريوهات تفكك كياني يزّنر عدداً لا يستهان من بلدانهم، لذا كان من الطبيعي حد البداهة توقع أن تكون مآلات الثورات العربية المتتالية والتي أنحرفت في غالبها عن مسارها السلمي مرتبطة بتجربة الحراك الشعبي المصري التي استطاعت أن تمضي في درب الآلام الخاص بها رغم كل الكبوات التي لم تغير الإتجاه العام (دون نسيان الثورة التونسية) والسؤال هنا : لماذا؟ وإلى أين تتجه مصر؟

فلأن مصر هي البلد العربي الوحيد التي ينطبق عليها التعريف السياسي الحديث للدولة-الأمة من حيث ثبات واستمرارية الهوية والذاكرة الوطنية الجامعة لشعبها، ووضوح حدودها الخارجية وعمق التجربة التاريخية عبر العصور التي تسكن المكان والأهم من ذلك مؤسسات الدولة المصرية التي أثبتت فرادةً مطمئنة في محيطها العربي إذ هي محتوية بإمتياز، أو قد يفضل البعض تعبير، متفاعلة مع ثوران شعبه، وهو أمر مدهش حقاً فالتاريخ يخادع قارئه من حيث لايتوقع، ففي الزمان الصاعق والمفاجيء للثورات العربية المتخطية للحدود القطرية والرافعة لشعارات الحداثة العالمية شهدنا ردات فعل غير متوقعة من حركة الإخوان المسلمين بديناميكيتهم الشعبوية ورؤيتهم المرنة أو غيرها من الحركات الإسلامية، ردود الأفعال هذه استدعت في المقابل توازياً في الاستجابة من مؤسستي دولة مصر الأكثر رسوخاً من الناحية الوظيفية أعني القضاء والجيش، ولك أن تلاحظ أن الضغط الشعبي لم يؤد لإنهيارهما بل شاهدنا أن هاتين المؤسستين العريقتين ورغم اختراقهما من مؤسسة الرئاسة المصرية المباركية استطاعتا وبفضل حياتهما وذاكرتهما السابقتين لعصر مبارك، بفضل إرثهما المرتبط بدايةً بتكوين الدولة في مصر أن يتفاعلا مع الحراك الثوري وأن يؤمنا رحلة مصر خلال العام ونصف العام الممتدين منذ تاريخ 25 يناير.

كل ما سبق يوضع في ميزان المقارنة مع ما يحصل في المشرق العربي “ليفانت”، بلاد الشام والعراق، حيث يبدو العالم في حالة انصهار مستمر حيث الدولة غير مكتملة الشرعية ومجتمعات أقلوية تزداد تفككاً بمرور الأيام وحيث الخيال السياسي للنخب السياسية إسلامية كانت أو علمانية يعجز عن تقديم رؤية تماسكية للمستقبل مقارنة بالأحزاب الرئيسية في مصر.

في المقابل يجب ان ننتبه إلى اخطاء القوتين المهيمنتين الآن على ميزان القوة في المجتمع المصري، أي الجيش والإخوان، سأركز هنا على الطرف الثاني، فنزعة الإخوان التوسعية إن صح التعبير والمشتهية لقضم ما يتسنى لها من غنائم طال انتظارها والتي خرقت وعودهم السابقة بتحجيم حصتهم الاستحواذية من الكعكة المتاحة، بالإضافة لرهانهم العالي على قاعدتهم الانتخابية، أدى إلى تحييد شرائح مهمة كالأقباط ومنتسبي الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية هذا بالإضافة طبعاً إلى مؤيدي شباب الثورة والعسكر كذلك، هذا يعني انه في الوقت الذي يمتلك فيه الإخوان شرعية الصندوق الإنتخابي فإنهم يواجهون الآن أجزاء ضخمة وذات عزيمة قوية من المجتمع ما يجعل مساحة المناورة السياسية أمامهم ضيقة وبالتالي سيضفي هذا على أي خطأ ترتكبه الجماعة (أو بالأحرى حزبها ورئيس الجمهورية القادم من مراتبها) قيمة سلبية مضاعفة. هذا يعني أن على الرئيس محمد مرسي (وجماعته) أن يستغل ما تبقى له من صلاحيات – وهي فعلياً صلاحيات رئيس وزراء- لتشكيل حكومة تحشد إتفاقاً سياسياً مدنياً تستطيع به أن توازن ثقل المجلس العسكري الأعلى.

إن استطاع الأخوان فعل ذلك (وهو أمر يظل مشكوك به نظراً لماضيهم) فإن ذلك سيكون فاتحة لعملية تحول بطيئة في المشهد المصري على المدى القصير يعود فيه خط المواجهة السياسي من التماس القائم حالياً بين العسكرتاريا المهيمنة وفرص الحكم المدني الديمقراطي إلى ما يجب أن يكون عليه، أي بين أحزاب سياسية تتنافس في ظروف طبيعية وأكثر تحرراً من جو عدم الثقة والشك المهيمن حالياً. اما على المدى الطويل فإن التحول الحقيقي والشائك والمصيري سيكون ذاك الذي تنتقل فيه مصر من وضعية “الدولة السلطانية” التي ورثتها منذ القرون الهجرية المتأخرة إلى حالة “الدولة التعددية” بحداثيتها التي ستفتح امام المصريين والعرب فرص استئناف تاريخهم من جديد.

خاص بـــ (الهتلان بوست)