دلفين على بِركة المتوكل العباسي

الجمعة ٢٩ يناير ٢٠٢١

قدم الأديب والمحقق العربي أحمد تيمور باشا، مجموعة من الكتب المهمة والجميلة التي تعكس جانباً من حياة العرب الاجتماعية، وتفاصيل أحوالهم اليومية، مما يندر الانتباه له، أو إفراده في كتب مستقلة، فقام بجمع شتات القصص والأخبار من بطون كتب التاريخ، ودواوين الشعر، فاستخلص منها صوراً عجيبة عن رفاهية الحياة اليومية في العصور الأموية، والعباسية، والفاطميين والمماليك. من هذه الكتب، كتاب «لعب العرب»، وكتاب: «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب»، وله كتاب آخر عنوانه «الحب والجمال عند العرب». أحمد تيمور باشا (توفي ١٩٣٠م) من أهم رجال النهضة العربية، وصاحب أكبر مكتبة خاصة في العصر الحديث، قدم خدمات جليلة في حفظ كنوز التراث العربي، وحمايته من الضياع. ونظراً لاطلاعه الواسع، ووفرة الكتب والمخطوطات لديه، فقد تسنى لأحمد تيمور باشا أن يلتقط جماليات الأخبار، والقصص، ويتحف القارئ بدقائق فريدة عن أحوال تاريخ العرب، وتفاصيل عاداتهم وتقاليدهم. يظن المرء أن العصور الإسلامية المبكرة تعاني من صعوبة العيش، وشظف الحياة، وقلة موارد الأكل والشرب، لكن ما يفاجئك به تيمور باشا هو مستوى الرفاهية، ورقي الحياة الاجتماعية، بل وتفننهم في الملذات والحفلات، وتزيين البيوت والموائد والقصور، وهذا لا يقتصر على أحوال البلاط والسلطان، بل يتجلى في حياة العامة والناس، الذين وصلوا إلى مرحلة من التمدن الحضاري حتى أصبحت الزخارف والزينة، والعناية بالجمال والذوق من أهم…

صولجان الرشيد وشطرنج صلاح الدين

السبت ٢٣ يناير ٢٠٢١

الحديث عن تاريخ الألعاب ليس مجرد ترف علمي، ولا تكلف ثقافي، بل هو حديث عن أحد الجوانب التي تفسر التغيرات الثقافية والاجتماعية في تاريخ الأمم والمجتمعات -كما مر معنا في المقال السابق «تاريخ ألعاب العرب»-. في ذاكرة الأمم هناك مكانة هامة للألعاب، فهي تكشف في بعض جوانبها عن أهم الأحداث والتحولات التاريخية الكبرى، والحروب المؤثرة العميقة، كما حدث في أشهر حروب العرب «داحس والغبراء» التي كانت في أحد فصولها غشّاً في منافسة سباق الخيل بين الفرسين داحس والغبراء، حينها اشتعلت الحرب الشعواء ودامت ٤٠ سنة بين قبيلتي عبس وذبيان. وإذا عدنا بالزمن أكثر إلى الوراء نجد تاريخ الألعاب الأولمبية، وعمق أثرها وصلتها بالثقافة اليونانية، وتشابكها مع ما تحمله هذه الثقافة من فلسفة، وأديان، وآلهة، حيث تعدّ الألعاب الأولمبية أشهر الدورات الرياضية في التاريخ القديم. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مدينة أوليمبيا اليونانية، التي كانت مركزاً للعبادة. الأمر نفسه ينطبق على المصارعة اليونانية الرومانية التي تعبر عن أبرز لحظات التمازج الثقافي بين الأمم والحضارات. حيث أخذ الرومان من الإغريق لعبة المصارعة، ثم أصبحت لاحقاً أحد أبرز الملامح التي ارتبطت بالإمبراطورية الرومانية، وشعاراتها السياسية. هذه اللمحات والرسائل الثقافية من داخل الألعاب تتجلى لنا أيضاً في تاريخ العرب، حيث شهدت الألعاب في عصر الدولة العباسية حضوراً مكثفاً، وشعبية طاغية، وتنسيقاً، وتنظيماً، وجماهير ذات…

أعظم ملوك العرب

السبت ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٠

حين ألّف أمين الريحاني كتابه «تاريخ نجد الحديث وملحقاته»، كتب في مقدمة الكتاب إهداء خاصاً للملك عبدالعزيز، وجهه إليه قائلا: «صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز المعظم، يا طويل العمر.. منذ عهد الخليفة عمر حتى بداية عهدكم السعودي لم يسعد العرب بمن يجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويعزز شؤونهم فيجعلها تحت السيادة التي فيها الخير للجميع، وهي السيادة العربية الواحدة». يرى الريحاني أن ما فعله الملك عبدالعزيز هو أول نجاح شامل تشهده الجزيرة العربية، فقد فشل الأمويون والعباسيون ولكن نجح عبدالعزيز، «كان في بني أمية معاوية، وفي العباس المأمون، وفي الأيوبيين صلاح الدين، ثلاثة من عظام العرب بل من عظام الرجال في التاريخ العام، ولكنهم إن وصلوا إلى ذرى المجد ورفعوا أعلام العرب في أقاصي البلدان، فلم يتمكنوا من بسط سيادتهم على شبه الجزيرة كلها، ولا كان يهمهم العنصر الأكبر فيها، إلا كحطب للحروب.. ما استطاع الأمويون أن يوفقوا حتى بين القيسية واليمنية في الشام، ولا استطاع العباسيون أن يبسطوا نفوذهم حتى على عشائر الأحساء». يقول الريحاني: «ولكن بعد ألف وثلاثمائة سنة كُتب للعرب عمر ثانٍ، بعث إليهم بعبدالعزيز ليجمع شملهم، ويوحد مقاصدهم، ويعزز جانبهم، ويؤسس ملكاً عربياً هو منهم، وهو فيهم، وهو لهم». أمين الريحاني (ت.١٩٤٠) هو أحد كبار المفكرين العرب، من طلائع رواد النهضة العربية بداية القرن العشرين، لعب دوراً محورياً…

القاري الحنفي في خدمة الحنبلي

السبت ٠٨ فبراير ٢٠٢٠

الشيخ القاضي أحمد بن عبدالله القاري (ت 1359هـ) من أعلام الفقه والقضاء في تاريخ السعودية الحديث، كان عضواً بمجلس الشورى، ورئيساً للمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة. ورغم أن اسمه وأعماله محصورة بين الباحثين والمختصين، إلا أن الرجل قدم منذ وقت مبكر مشروعاً عظيماً في تقنين الفقه، وصياغة مسائل مذهب الإمام أحمد بن حنبل على شكل مواد وبنود قانونية، جاءت في عمل سماه (مجلة الأحكام الشرعية)، في 680 صفحة، ويحتوي على 21 كتاباً، اشتمل على كثير من المسائل والقواعد الفقهية في المذهب الحنبلي، ويعد مرجعاً ومصدراً علمياً للفقهاء والقضاة والقانونيين. جهد القاري الذي تطوع وانبرى له بشكل شخصي كان نواة حلم ورغبة عند الملك عبدالعزيز -يرحمه الله-، حين استقرت شؤون البلاد، وتوحدت أطرافها، كان الملك يرغب في أن يرى مدونة قضائية لضبط فروع الفقه وأحكام القضاء، حتى يسهل على القاضي والمتقاضي، وعموم الناس الرجوع إليها والاستفادة منها، وتيسر للناس شؤونهم، وتسهل لهم الطريق لمعرفة الأحكام الفقهية. ونشرت جريدة أم القرى في تاريخ 26 أغسطس 1927، إعلانا لرغبة الملك عبدالعزيز، وحثاً للعلماء المختصين أن يشاركوا في هذا المشروع الكبير، حيث جاء في الإعلان: (إن جلالة الملك حفظه الله يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة، وهذه المجلة تكون مشابهة في…

صادق العظم بين الخميني وأدونيس «الشيعي»!

الأربعاء ٠٤ يناير ٢٠١٧

سئل المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم ذات مرة عن رأيه في موقف الشاعر والناقد أدونيس من الثورة السورية – وكان كثيرا ما يُسأل هذا السؤال -، فأجاب: «إن مشكلة أدونيس أنه لا يعرف متى يدافع عن قيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية، لقد كان داعية لتحرر المجتمعات العربية، لكنّ خطابه سرعان ما تغير حين قامت الثورة الإسلامية في إيران، وتبنى خطاباً مدافعاً عن ولاية الفقيه.. أعتقد في هذه اللحظات المفصلية من تاريخ سورية استفاقت (شيعية) أدونيس». يبدو أن الثورة السورية قد أحدثت تمييزا وكشفا لحقيقة القيم والشعارات التي كانت ترد في خطابات بعض المثقفين العرب الذين قدموا أنفسهم رواداً للحداثة والتقدم والتحرر، ثواراً ضد الانغلاق والاستبداد والتخلف، لكن حين قامت الثورة السورية اضطربت موازينهم، وارتبك خطابهم، وتبخرت شعاراتهم، لم يكتفوا بالصمت بل انحازوا لصف المستبد ضد حرية الشعوب، واختاروا معسكر الديكتاتور ضد المكلومين المسحوقين، وسبب هذا التحول والتبدل يعود في جذره إلى هوى طائفي مكبوت، أو ولاء مضمر للمشروع الإيراني كشفت عنه الأحداث، وأسفرت عن مكنونه المتغيرات التي لم تعد تقبل أنصاف الحلول، أو أنصاف الكلمات. وقف الشاعر السوري علي أحمد سعيد – ذو الأصول العلوية- المعروف بـ«أدونيس» ضد الثورة السورية، وخاطب الرئيس بشار بالرئيس المنتخب، واعتبر أن الأزمة التي تواجهها سورية اليوم لم تعد (أزمة نظام) بل (أزمة ثورة)،…

هل تدريس الفلسفة يحمي من التطرف والإرهاب؟

الأحد ٢٠ نوفمبر ٢٠١٦

يؤكد كثير من الباحثين والمنشغلين بالعلوم الفلسفية أن الطريق الأمثل والأنجع للقضاء على فكر الإرهاب والتطرف يتمثل في إحياء الفلسفة، وإعادة اعتبارها، وتجديد مكانتها في التعليم الأولي بالمدارس، فـ«الفلسفة كتعبير عقلي منطقي قادرة على مواجهة كل أشكال العنف والتطرف لكونها حبلى بالقيم الإنسانية التي تهدف إلى تحقيق نوع من التناغم بين البشر»، وهي كما يقول آخر «أداة مهمة في علاج سعار الإرهاب الذي ابتليت به المنطقة العربية. ولا يتحقق إنقاذ الأجيال القادمة من التأويل المنحاز للتراث إلّا عبر إعادة تأهيل الفلسفة في النظام التعليمي العربي». مثل هذه المقولات وغيرها الكثير، تروم التوصل إلى حل شاف يسبر أغوار التخلف والارتكاس في التطرف الذي يقبع فيه العالم العربي منذ قرون. وفي هذا الصدد تأتي تجربة التنوير الغربي كملهم ومؤثر يتعلق به كثير من المثقفين والاصلاحيين من أجل إعادة استنساخه وبعثه في الواقع العربي، ومن ثم تكون (الفلسفة) في المقام الأول للنظر والاهتمام باعتبارها المحرك الأبرز لتنوير العقل الغربي الذي تحرر بفضلها من سلطة الكنيسة الكهنوتية، وتخلى عن الحروب الدينية. لا أحد ينكر ما للفلسفة من أثر كبير ضارب في عمق الحياة الإنسانية، ودور بالغ في تطور آلية تفكير الفرد والمجتمعات، لكن حين تقدم بصورة شمولية مثالية مصمتة باعتبارها حلا لإحدى المشكلات بالمطلق فإننا حينها أمام عملية تضليل علمي، واختزال لهذا العلم في…

الفن في المنفى.. ممانعة مبكرة تجاه الأغاني في السعودية

الأحد ٠٢ أكتوبر ٢٠١٦

أثارت كلمة فنان العرب محمد عبده التي اختتم بها حفلته الأخيرة بدبي في 16 سبتمبر الماضي، الكثير من اللوعة والشجن في قلوب محبيه، حين خرج عن نسقه المعتاد، مدفوعا بالشوق والحنين، فقال أمام جمهوره المخلص: «إن شاء الله نلتقي في الوطن.. ولا يبقى فننا في المنفى». هذه الكلمة تعبر في طياتها عن تاريخ طويل من السجال والصراع حول موضوع الموسيقى والأغاني في السعودية منذ عقود طويلة مع بداية الأغنية السعودية الحديثة، وظهور وسائل الإعلام التقليدية. لكن على الرغم من كل العقبات والصعوبات قدم الإنتاج الغنائي السعودي قامات فنية رفيعة على مستوى العالم العربي، على رأسهم فنان العرب محمد عبده، والفنان الراحل «صوت الأرض» طلال مداح. شهدت الصحافة السعودية أول واقعة سجال وجدل حول الغناء والموسيقى، تزامنا مع تأسيس الإذاعة السعودية، وانطلاق نشاطها الفعلي في مطلع الثمانينات الهجرية، حين اعتزمت إذاعة جدة بث أول أغنية سعودية، أصبحت فيما بعد أشهر أغنية وطنية لاينساها السعوديون حتى اليوم. بدأت قصة هذه الأغنية قبل أكثر من خمسة عقود حين ذهب الفنان طلال مداح إلى استوديو الإذاعة في جدة عام 1381هـ/‏‏ 1961م ليسجل أغنيته الشهيرة «وطني الحبيب.. وهل أحب سواه» بصحبة فرقة النجوم بقيادة الفنان محمد أمين يحيى. كان التسجيل متواضعاً وحسب الإمكانات الفنية المتاحة حينذاك، لكنها كانت مؤثرة وحققت نجاحاً فورياً وقد اعتبرت أول…

كتاب ابن تيمية المغضوب عليه .. «الجهاد للدفاع فقط»

الأحد ١٥ مايو ٢٠١٦

في كتابه (العصرانيون.. بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) وضع محمد حامد الناصر قائمة بأهم الصفات التي تميز العصرانيين «الذين يطوعون تعاليم الدين حتى يكون ملائما ومناسبا لظروف العصر». يقول: «من صفاتهم أنهم يعملون على تشويه التاريخ الإسلامي، والدعوة المبطنة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة، ويقصرون الجهاد على الدفاع فقط». هنا يبدو كيف تحولت مسألة فقهية خلافية، (جهاد الدفع، وجهاد الطلب) فأصبحت سمة وعلامة مميزة لطائفة «انهزامية» من المسلمين، من قال بها، فهو «في ركب الساعين إلى تشويه الإسلام، وتطويعه من أجل رغبات الغرب!» لكن هذه الفكرة «الانهزامية/العصرانية» لم تكن وليدة اليوم، ولا صنيعة لممالأة الغرب، بل قال بها وأصلها منذ وقت مبكر أحد أعلام التراث الإسلامي، هو شيخ الإسلام ابن تيمية، في رسالة مهمشة، غير مرحب بها كثيرا، عنوانها: (قاعدة في قتال الكفار ومهادنتهم، وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم) أو في عنوان آخر لها (قاعدة في قتال الكفار، هل هو لأجل كفرهم أو دفاع عن الإسلام). أثارت ضجة وغضبا داخل الأوساط العلمية الدينية في السعودية خلال الخمسينات الميلادية، ومنعت الرسالة وصودرت، وحظر نشرها. يقول ابن تيمية في مطلعها: «الدليل على تحريم قتال من لم يقاتل من الكفار، قوله تعالى: (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن الأمر معلل بالقتال، وليس لكفرهم.. (ولا تعتدوا) والعدوان مجاوزة…

مناظرة «علماء الرياض».. التي أغضبت ابن إبراهيم

السبت ٠٧ مايو ٢٠١٦

في عام 1956 أصدر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود -مفتي قطر، ورئيس محاكمها الشرعية- رسالة بعنوان (يُسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام)، أفتى فيها بجواز الرمي قبل الزوال، نظراً لحاجة الناس وشدة الزحام، ورفع المشقة والحرج باليسر. لم تمر هذه الرسالة مرور الكرام، بل أثارت عاصفة من الردود والسجال والغضب، فقد جاوز المألوف وكسر المتفق عليه في مناسك الحج عند متأخري الحنابلة، جاء الرد الأشهر عليه من أستاذه مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي كتب رسالة بعنوان (تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك)، قال في مطلعها: «وأنا في بلد الله الحرام مكة المكرمة، وقع في يدي كتاب من الشيخ عبدالله بن محمود، وبرفقه رسالة ألفها، وسماها (يسر الإسلام) وبين أشياء من مناسك حج بيت الله الحرام.. وقد ذكر في كتابه إليّ المرفق به هذه الرسالة تأليفه إياها، وأنه أرسلها إليّ لأنظر، هذا بعد أن طبع منها الألوف الكثيرة، وفرقها في نجد والحجاز وكثير من البلاد المجاورة. وهذا من العجيب، كيف ينشرها هذا النشر الشهير، ويكتب إليّ لأخذ رأيي فيها، وكل من اطلع على رسالته من العلماء والطلاب لا يشك ولا يرتاب، أنه وقع بتأليفها في هوة مردية، واكتسب بكتابتها سمعة مزرية، وفاه بجهالة جهلا، وضلالة في هذا الباب عميا، وكنت قد…

«إكسبو 2020».. الذاكرة تنحاز إلى دبي

الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠١٣

في المذكرات التي دونها خلال رحلاته ما بين إنجلترا وويلز، يلاحظ الكاتب الإنجليزي آرثر يونغ (1820) الشواهد الأولى للثورة الصناعية التي انطلقت شرارتها من بريطانيا وعمت أصقاع أوروبا في القرن الثامن عشر، ويحلل الروح السائدة المفعمة بالعقل الطموح آنذاك. فيقول: «إن هذه الأعمال مهما كانت طريقة تشغيلها وأسبابها ونتائجها فهي تنطوي على فوائد لا حصر لها، تسجل لحساب هذا الإنسان الألمعي النافع الذي سيحتل الجدارة أينما ذهب، لأنه سيحمل الناس على التفكير.. هو نجح حين نفض عن نفسه غبار اللامبالاة، والكسل والخنوع والبلادة.. انظروا إلى تدفق الفكر والعنفوان والجهد القوي في شتى سبل الحياة، يمكنكم أن توقنوا الآن بأن ما تفعلونه هو الصحيح». لم يكن البخار الذي انبعث من آلة الاسكتلندي جيمس واط (1819) إعلانا عن انطلاق الثورة الصناعية فحسب، بل كانت أبخرة آلته أيضا أهزوجة شعرية تغنى بها الشعراء والاقتصاديون ومرحلة للحبور بالخطوة العظيمة التي حققتها الإنسانية: «أيتها الطليعة المتقدمة.. أفرطي في الثناء على قدرة القاطرة، أفرطي في الثناء على البخار وخطوط السكك الحديدية.. إنها بالفعل أيام مجيدة»، هكذا كان يغني إيه بومييه، وترتل المشاريع الصناعية الصاعدة بقوة معه ترانيم الألحان. ماذا كانت تعني تلك اللحظة؟ يتساءل إريك هوبسباوم في «عصر الثورة»، قائلا إنها كانت تعني «ثورة الإنسان»، ثورته ضد الأغلال التي كانت تكبل القوة الإنتاجية للمجتمعات البشرية التي…