د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد
د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

التعاون الإسلامي

الجمعة ٢٩ يوليو ٢٠١٦

الأمة الإسلامية أمة واحدة في دينها وشريعتها وعقيدتها؛ فهي تؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً، وتؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا تفرق بين أحد من رسله، كما تؤمن باليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، خيره وشره، من الله تعالى، فهذه أسس الإيمان ومبانيه العظام التي لا تختلف فيها، كما أنها تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج بيت الله الحرام، فماذا بقي من مقومات الوحدة غير هذا؟ لذلك سماها الله تعالى أمة واحدة في أكثر من آية، ووصفها بأنها كالبنيان المرصوص، ووصفها المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بأنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، لذلك فرض الله تعالى عليها التعاون على البر والتقوى وخاطبها بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، والأمر للإيجاب، وهو يشمل الأفراد قبل الجماعات، كما أمرها سبحانه بالاعتصام بحبله والتمسك بشرعه ونهاها عن التفرق الذي يوهن القُوى ويجرئ الأعداء، وجعل التعاون بينها سمة بارزة في جميع شؤونها كما قال سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، لذلك هي أمة واحدة في مقوماتها الفكرية والسلوكية، وإن تفرقت مناهج حياتها سياسياً أو فكرياً، فذلك لا يؤثر…

اللهو الباطل

الجمعة ٢٢ يوليو ٢٠١٦

ديننا الإسلامي الحنيف دين الجد والعمل لما ينفع المرء في دينه ودنياه، لذلك هو يكره الباطل واللهو الزائل، ويدعو الناس لأن يترفعوا عن كل ما لا ينفع، فضلاً عما يضر بالنفس أو بالغير، وقد ورد في الحديث «كل ما يلهو به المرء المسلم باطل، إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله»، وترجم له البخاري بقوله: «باب» كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله}، قال الحافظ ابن حجر: وإنما أطلق على ما عداها ـ أي الثالثة المذكورة - البطلان من طريق المقابلة، لا أن جميعها من الباطل المحرم. اهـ وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن الكون كله لم يخلق باطلاً ولا لعباً ولا لهواً بل بالحق، ليكون أهله على الحق والهدى لا على الباطل والعبث فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} ليُعلم عباده أن الباطل ليس من شأنهم، فهم خلقوا لمعرفته وعبادته وعمارة الكون، فإذا لم يوظفوا أعمارهم بذلك فإنهم يكونون قد أضاعوه سدى وكان عليهم  حسرة. نقول هذا في وقت كثر فيه الباطل وانتشر انتشار النار في الهشيم، وانصرف الناس عن الحق وما ينفعهم إلى ما قد يضرهم…

مأرز الإيمان

الجمعة ١٥ يوليو ٢٠١٦

أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها»، والمعنى أن المدينة المنورة وطيبة الطيبة ودار الإيمان، ستكون مثوى الإيمان والمؤمنين إذا انحسر من البلدان أو من بني الإنسان، فيجتمع فيها ويؤوب إليها المؤمنون من كل مكان ، كما أن الحية ترجع إلى جحرها وتثوي فيه، وهذه الفضيلة خاصة بها لا توجد لأي بلد آخر. ومن خصائصها أن الدجال الذي يعيث في الأرض فساداً إلا أنه لا يستطيع دخول المدينة لأنها محروسة بحراسة الله تحرسها الملائكة، كما روى أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبدالله، رضي الله تعالى عنهما، قال: «مثل المدينة كالكير، وحرَّم إبراهيم مكة، وأنا أحرم المدينة، وهي كمكة حرام ما بين حَرَّتيها، وحِماها كله، لا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل منها، ولا يقربها - إن شاء الله - الطاعون، ولا الدجال، والملائكة يحرسونها على أنقابها، وأبوابها»، قال جابر: وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ولا يحل لأحد يحمل فيها سلاحاً لقتال». فهي كالكير تنفي خبثها، فلا يبقى فيها إلا مؤمن، ومن أرادها من أهل الفجور فإنه ينماع ويذوب كما يذوب الملح في الماء، وهي حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا…

الإرهاب المصنوع

الأحد ١٠ يوليو ٢٠١٦

لم يعد هناك مكان آمن يعيش بمنأى عن الإرهاب؛ فالأقارب يذبحون، ومساجد الله الآمنة تفجر، وكذا المنازل والأسواق والسيارات والمستشفيات.. وأخيراً حرم رسول الله وجوار حجراته التي نهى الله تعالى أن ترفع عندها الأصوات، وفي مهبط الوحي حيث تنزلت الملائكة والروح والقرآن، حيث قامت دولة الإسلام وشع نورها في الآفاق، وما ندري ما وراء ذلك من أهوال؟! الكل يندد ويشجب ويدعو ويتوعد وينكر، بل القلوب الحية تبكي وهي بمنأى لجراحات القلوب التي أصابت الجميع كما أصابت الأجساد التي تواجدت، وكل هذا طيب ومطلوب، غير أن هذا لا يوقف سيل الإجرام وزَبده الذي لا يرام، إنما الذي يوقفه هو معالجة الفكر الذي استحل التكفير، وولد التفجير وتبنّى الشر المستطير؛ الفكر العقدي الإقصائي الأناني المدعي الأحدية لنفسه النابذ لغيره، المتسلط على الغير، النابذ للتراث الفقهي، ذلكم الفكر الخارجي أو الرافضي أو الشعوبي - كله صحيح - هو الذي تتعين معالجته حتى تؤمن غائلته، ومع كل ما نرى ونسمع فإننا لم نلمس عملاً مباشراً لمعالجته، مع علم الجميع علماً ضرورياً أن استئصال هذا الإجرام لا يكون إلا باستئصال تلكم الأفكار المأفونة، غير أن هذا العلم الضروري مازال نظرياً لم ينزل إلى التطبيقي، فما يحدث في العراق من طرفي النزاع هو نتاج ذلكم الفكر، وما يحدث في بلاد الحرمين واليمن وسورية وتونس وليبيا ومصر…

وداعاً أيها الشهر الكريم

الجمعة ٠١ يوليو ٢٠١٦

كان السلف الصالح وتبعهم الخلف المقتفي آثارهم يبكون حرقة على وداع شهر رمضان المبارك؛ لأنهم كانوا في روضته يحبرون، بين صيام يحبه الله ويختصه لنفسه، ومناجاة ربهم بكلامه سبحانه، وتبَتُّل بقيامه، وصون للنفس عن كل ما لا يحبه الله، مع معونة الله تعالى لهم بحمايتهم من الشياطين ومردة الجن، وتشجيع بفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، وتشوُّفٍ لعتق الله تعالى في كل ليلة، وفي آخره كان التشوف أرجى، وتطلُّع لليلة عظيمة هي مُناهم ومقصودهم من التبتل لله تعالى، فإذا دنا فراقه حزنوا على تلك الأحوال التي لا تتهيأ في غيره، فيعبرون عن ذلك بألسنتهم وأحوالهم، بما تُكِنُّه صدورهم من محبة للطاعة، ورغبة في ما عند الله تعالى من الفضل؛ كما كان من العلامة أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي، رحمه الله، الذي كان يبكي حُرقة على فراقه ويقول: «إن شهر رمضان قد انصرم وانْمحق، وتشتت نظامُه بعد أن كان قد اتسق، فكأنكم به قد رحل وانطلق، يشهد لمن أطاع وعلى من فسق، فأين الحزن لفراقه وأين القلق؟!» ثم يندبه بقوله: «ما كان أشرفَ زمانه بين صيام وسهر! وما كان أصفى أحواله من آفات الكدر! وما كان أطيب المناجاة فيه بين وسط الليل والسحر! وما كان أرق القلوب عند اشتغالها بالآيات والسور! وما كان أضوأ لآلئه في جوف الغسق»، ثم يقول معزياً…

إخراج الزكاة يحقق السعادة المجتمعية

الجمعة ٢٤ يونيو ٢٠١٦

تحقيق السعادة المجتمعية مقصد شرعي عظيم؛ لذلك فرض لها الشارع الحكيم وسائل اجتماعية كثيرة، من أهمها إخراج زكاة المال وزكاة الفطر، لما لهما من أثر مباشر في تحقيق السعادة لذوي الحاجة من الأصناف الثمانية الذين عطف الله تعالى عليهم، فجعل لهم حقاً معلوماً من ماله سبحانه الذي آتاه بعض عباده، ليعيش المجتمع الواحد في سعادة كاملة، لأن الغني العاقل لا يسعد بماله إذا كان يرى غيره يتضوَّر جوعاً أو عُرياً أو في همِّ الدَّين أو ذُلِّ الحاجة في بلد الغربة، أو غير ذلك؛ لأن هؤلاء هم إخوانه المسلمون الذين يهتم لهم كما يهتم لأمر نفسه، وإن لم يكن مهتماً بهم لأنانيته فلحماية نفسه من شر الفقراء وذوي الحاجة الذين قد تحملهم الحاجة على الخروج عن جادة الصواب إلى فعل ما يخل بالأمن والنظام؛ فإن الفقر كما قالوا كافر، فشرع الإسلام لتحقيق سعادتهم فرائض مالية في أصناف الأموال الزكوية النامية، من نقود وعروض ومما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار ومن بهيمة الأنعام ومما تُكنُّه الأرض من المعادن والكنوز، ونحو ذلك مما قيل بوجوب الزكاة فيه، كالحلي والعسل وبعض الثمار.. كل ذلك لأن في الناس حاجة إلى ما يسعدهم في حياتهم، فإذا قدر المسلم على إسعاد أخيه كان من حق الأخوة، الإيمانية والإسلامية، أن يُبذل لهم من عُلالة الدنيا ما فيه إسعادهم،…

الأمة الحية هي التي تقرأ

الجمعة ١٧ يونيو ٢٠١٦

للإنسان غريزتان تكونان حياته؛ فبهما يعيش ويسعد أو يشقى ويتعس؛ هما الغريزة الحسية التي تتعلق ببناء الجسم وبقائه حياً ذاتاً ونوعاً، وتلك هي غريزة الشبع والري والشهوة، وهذه الغريزة جعلها الله مشتركة بين خلقه من الكائنات الحية، وإشباعها سهل، فبمجرد ملئها تنكسر نهمتها ويحصل المراد ولا تحتاج المزيد، بل تعاف النفس ما زاد على حاجتها. والغريزة المعنوية التي لا تُشبع هي غريزة المعرفة التي يتميز بها الإنسان عن غيره، ولأجلها أسجد الله تعالى الملائكة الكرام لأبينا آدم عليه السلام، والتي بها ينمو العقل ويزكو الخُلق، وتعظم المرتبة، ويشرف بها المرء في قومه، وغذاء هذه الغريزة هي القراءة الماتعة النافعة، ويترتب على كل غريزة منهما الحياة والموت، فالجسم إذا لم يتغذَّ بما يحتاجه من غرائزه يموت، فتفسد حياته، والعقل إذا لم يتغذَّ بما يحتاجه من غرائزه يموت كذلك، إلا أن موت العقل أخطر من موت الجسم، فالجسم يموت لا محالة مهما أُشبعت غرائزه، لكن العقل إن أشبعت غرائزه لا يموت، فإنه عندما يحيا ينتج ما يُمد حياته أزمنة مديدة، فيعيش مع أجيال متعاقبة يذكر ويثنى عليه، ويناقش ويرد عليه، ويؤيد ويعتمد عليه، وينظَّر من كلامه وينفع أمماً وأفراداً، كما قالوا: قد مات قوم وما ماتت مآثرهم وعاش قوم وهم في الناس أموات وأشار إلى ذلك الزمخشري بقوله: ما نسل عقلي كنسل…

شهر رمضان والقرآن

الجمعة ١٠ يونيو ٢٠١٦

للحوادث تاريخٌ يُذكر، وخبر ينشر، وأعظم الحوادث أثراً ما كان به حياة الأمم وسعادة البشر، وذلكم هو تنزُّل القرآن العظيم على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد بن عبدالله، صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله تعالى أرَّخ لنزوله زماناً وإنساناً ومكاناً، فأخبر أنه أنزله في شهر رمضان فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وفي ليلة مباركة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وعلى الإنسان الذي اصطفاه الله تعالى على العالمين وجعله رحمة وبشيراً ونذيراً لهم، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}. وأما المكان فإنه مرتبط بالإنسان الذي نزل عليه القرآن، فهو مكة أم القرى، التي بها ولد وبها نشأ، وفي غار حراء الذي كان به يتحنَّث ويخلو بنفسه للتفكر في ملكوت الله؛ فهو تاريخ موثق ويجب أن يتجدد ذكره في كل وقت، ولكنه في ذكرى تنزله أعظم وأحرى، ولذلك كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسفير الوحي وناموسه جبريل عليه السلام، وهما طرفا الوحي تنزيلاً وتلقياً؛ كان لهما شأن آخر في شهر تنزله، فقد كانا يلتقيان في هذا الشهر التقاءً خاصاً غير التقاء الوحي المتجدد؛ إنه التقاء مدارسة القرآن لا غير، كما روى ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: «كان رسول الله،…

خيرغائب ينتظر

الجمعة ٠٣ يونيو ٢٠١٦

يَهل علينا شهر رمضان المبارك وهو خير غائب يُنتظر، فهو الشهر الذي تصفو فيه النفوس، وتطهر فيه القلوب، وتزكو فيه الأخلاق، ويتنافس فيه المتنافسون للتَّزود بالتقوى، وهي معانٍ كريمة عظيمة، كل إنسان يطمح إليها، ويعلم أن شهر رمضان يجلبها مع ما فيه من عفو الله تعالى لعباده المؤمنين، وعون لهم على طاعته وذكره وشكره. وقد كان المصطفى، صلى الله عليه وسلم، يبشر أصحابه وأمته بقدومه، ترحيباً به وتهيئةً للنفوس لاستقباله بنيات طيبة، وقلوب نقية، كما روى أبوهريرة، رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أظلكم شهركم هذا؛ بمحلوف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يُعد فيه القوَّة من النفقة للعبادة، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فغنمٌ يغنمه المؤمن»، أي فهو غنم، وروى سلمان الفارسي، رضي الله تعالى عنه، فقال: «خطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آخر يوم من شعبان، فقال: يا أيها الناس، قد أظلكم شهر مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر، فرض الله صيامه، وجعل قيام ليله تطوعاً، فمن تطوع فيه بخصلة من…

الشباب عُدَّة الحاضر وصنَّاعُ المستقبل

الجمعة ٢٧ مايو ٢٠١٦

الأمة الحيَّة هي التي تهتم بشبابها وشاباتها، وتعدُّهم لحاضر أمرها ومستقبلها، هي التي تستثمر خيراتها في تكوين قدراتها الذاتية وتصنع نفسها بنفسها كما قالوا: نفس عصام سودت عصاما وعلَّمته الكرَّ والإقداما وصيرته بطلاً هُماما وألحقته السادة الكراما أو كما قال الآخر: نحن وإن كرمت أوائلُنا لسنا على الأحساب نتكلُ نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا وإن ذلك التسويد والبناء لا يأتي إلا من الجيل الصاعد القادر على الفهم والتحمل والابتكار، الجيل الذي يعيش في طفرة عمره توقداً وذكاءً، الذي لديه من المقومات الذاتية ما تجعله يسابق الآخرين ويفوز عليهم، إنه جيل الشباب الذي يعيش في الفترة العمرية الذهبية، والتي هي سر الحياة وصفوتها، فإنما الحياة الشباب، نعم هي حياة العلم، وحياة النبوغ، وحياة العمل، وحياة الإبداع، فما ينبل الرجال إلا في مراحلهم الأولى، وكما قال نفطويه: أرانيَ أنسى ما تعلمتُ في الكِبر ... ولست بناسٍ ما تعلمت في الصغر وما العلم إلا بالتعلم في الصِّبا ... وما الحلم إلا بالتحلم في الكِبر ولو فلق القلب المعلَّم في الصبا ... لأُلفِيَ فيه العلم كالنقش في الحجر وما العلم بعد الشيب إلا تعسفٌ ... إذا كلَّ قلبُ المرء والسمع والبصر فالأمة التي تعنى بشبابها تعليماً، وتنمية لمهاراتهم، وتأهيلاً لهم، وإنفاقاً سخياً من أجلهم، هي التي تريد الحياة، وهي التي تعشق…

شهر تُرفع فيه الأعمال

الجمعة ٢٠ مايو ٢٠١٦

اختُص شهر شعبان بفضائل كثيرة بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم». وفي ذلك دلالة على مزيد الفضل في صيامه اتباعاً وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم سرّ إكثار الصيام فيه، من أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، حتى يكون الصوم شافعاً لقبول العمل؛ لأن الصوم من أحب العبادات إلى الله تعالى، ولذلك اختصه بإضافته إليه سبحانه كما في الحديث القدسي «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به». وحُبُّه سبحانه له هو حب للصائم نفسه، ومع أن العبادات كلها له سبحانه، إلا أن للصوم خصوصية لا توجد في غيره، ولذلك كان «خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وهو مع ذلك عبادة سرية مخلَصه لله رب العالمين، وعبادة تعبد الله بها الأولين والآخِرين كما قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». فإذا رفع العمل مقروناً بالصوم ومختوماً به كان أدعى للقبول وحصول المأمول. وفي هذا الشهر الكريم ليلة النصف من شعبان التي فيها «يطَّلع الله إلى خلقه فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك…

الهيئات الشرعية وصناعة الاقتصاد الإسلامي

الجمعة ١٣ مايو ٢٠١٦

لاتزال صناعة الاقتصاد الإسلامي تحث الخُطى نحو التمكن في الأرض ونفع الناس، لأنها الصناعة التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، وتحمي الإنسان من محاربة الملك الديان، وها هي تنتشر في الأرض وتقبل عليها البشرية لملاءمتها لحاجاتهم، وتحقق لهم النفع والإفادة. وقد عقدت هيئة المحاسبة والمراجعة (أيوفي) مؤتمرها 25 في المدينة المنورة، برعاية أميرها الكريم، فيصل بن سلطان، وفي رحاب جامعة طيبة، الذي خصصته لمراجعة شاملة لمسيرة المصرفية الإسلامية في عقدها الأربعين، وقد كان الرعيل الأول من صُنَّاع هذه الصناعة، كالأمير محمد الفيصل وصالح كامل والحاج سعيد لوتاه، بنيابة ابنه البار صالح؛ حاضرين ومستحضرين مراحل تكوينها وتطورها ومعوقاتها واستشرافها، ولم يتورعوا عن نقدها التقويمي، وكان أبرز ما فيه أنها لم تتحول إلى استثمار حقيقي، بل بقيت في إطار المصرفية البنكية، وفي منتجات محدودة، لا تلبي طلب السوق، ولا تستوعب أبواب الاقتصاد الأخرى، ومع أهمية الاقتصاد في وضعه المصرفي وكبير نفعه، لأن مصارفه هي الوحيدة التي تماسكت وابتعدت عن عاصفة الانهيارات والأخطار التي لحقت بالبنوك التقليدية الأخيرة، عامي 2007-2008م، فحمت البلدان التي اتخذت منهجيته من كوارث الإفلاس. إلا أن الاقتصاد الإسلامي هو أشمل من ذلك وأعم، والحاجة إلى جميع جوانبه ماسة، فكان الواجب أن تتحول بنوكه إلى بنوك استثمارية، وليس لإدارة السيولة، كما ناشد بذلك الشيخ صالح كامل، الذي شكا من محاكاة…