مَدنيّة البداوة

السبت ٢٩ مايو ٢٠٢١

لا أدري من هو الذي روّج وأشاع أن البداوة ترتبط بالأميّة التي تعني التخلف والرجعية، فالسياق التاريخي يكذّب ذلك فمن يُطلق عليهم (أُميّون) قبائل أصيلة دانت لهم الفرس والروم، ووفدت لأسواقهم أمم بقوافل رحلات الشتاء والصيف، ومن يبيع ويشتري يحسب ويعد ويُحصي ويتعاقد ليس صالحاً للأميّة الاصطلاحية، كما أن الثقافة العربية ثقافة شفاهية ما يعني بداوتها وتقاطعها مع ما نسمع اليوم من أدب شفاهي متماهٍ مع حقب ما قبل التدوين وإن تحوّرت المفردات وأُعيدت صياغات. من أبرز ملامح مدنيّة البداوة الشجاعة التي تعني التصدي للظلم والعدوان وردع الباغي ورفض الغزو والاحتلال، والسخاء المتمثل في سد حاجة المحتاج ومواساته ولو بذبح أو بيع أو إهداء أعز ما يملك البدوي من جمل وحصان، ناهيك عن إكرام الضيف المتماهي مع النص القرآني. ولعل أصفى مشاعر وأرق عاطفة نجدها عند البدوي، ولذا حافظت البداوة على عُذريّة الحُبَّ قبل أن تُسلّعه المُدن بمتطلباتها اللامتناهية. للبداوة وللقرى أعراف أقرب إلى تنظيمات مؤسسات المجتمع المدني، منها تقنين وسائل وأساليب الرعي والري والسقيا والحِمى وصيانة وحراسة الواحات والغابات وخلق التوازن البيئي والحفاظ على الفطرية النقية بالاعتماد على الذات وتدوير ما فاض عن حاجة في الصناعات وقليل ما هو. للبداوة أصالة عميقة، فالجزيرة العربية موطن الحضارات السامية، وقبائل البدو تمثل نموذج حضارية الديانات والثقافات للساميين، وأشعارهم امتداد للشعر العربي…

تمكين المرأة بين الأديان والحضارات

السبت ٢٠ مارس ٢٠٢١

في زمن الصحوة، قرر أحد معارفي زيارة أخته المتزوجة من رمز صحوي في قرية جبلية، وتفاجأ عندما اقترب من البيت، ببابه مفتوح، والصراخ يتعالى. دخل فاستهال مما رأى، وصدمه المشهد التراجيدي، فالصهر يضرب زوجته، أخت الزائر، ووالد الصهر الثمانيني يحطّم أغراض مطبخها ويلقي بها يمنة ويسرة، ويردد؛ زدها، زدها، صدق الله (واضربوهن) مشجعاً ومغرياً ابنه بالتطاول على شريكة الفاقة، ورفيقة الزمن الشحيح، ومُشرّعناً قسوته بالدليل. قال ذلك المعرفة؛ وقفتُ صامتاً أمام شخصيتين، تمثلان حقبتين زمنيتين بائستين، وانتابني ألم مصدره أن كلاً منهما يرى نفسه نموذجاً مثالياً للتديّن، وأضاف؛ خرجتُ متحسراً كوني لم أفزع لأختي بأدنى مواساة، ولم أنجح في الاحتجاج على وحشية الأرحام ولو بمفردة (عيب). فيما حدّثني أحد الأصدقاء العرب عن زميل له كان أيام الجامعة (دنجواناً)، مُسرفاً في العلاقات العاطفية المرفوضة شرعاً ونظاماً، وعندما أتيحت له فرصة الالتحاق بركب الصحوة قلب لماضيه الأسود ظهر المجن الأبيض، واستعاض عن مراهقة العشرينات، بنزوة الغرق في أنواع الزيجات، والغريب إصراره على أسلمة (دنجوانيته)، وتبريرها بأنه لم يخرج من دائرة المباح، وعندما رأى صورة (أم زميله الثمانينية) في حالة الواتساب غضب منه وقال: وجه المرأة عورة، احذف صورة أمك، واتق الله وإلا هذا فراق بيني وبينك! قدّمتُ نموذجين واقعيين (محلياً وعربياً) ليكونا مدخلاً لتناول قضية المرأة الشاكية (الشائكة)، علماً بأن القصتين السابقتين…

عصرنة الفقهاء وكلاسيكية الفقه

السبت ٠٦ فبراير ٢٠٢١

اتصل بي أحد الأصدقاء ليسأل عن جواز اشتراط أحد الباعة عند رد المبيع اقتطاع نسبة من مبلغ الشراء للعمال الذين يقومون بتنزيل البضاعة الثقيلة نوعاً ما، من سيارة المشتري وردها للمستودع. وأضاف: أليست صورة من صور «العِينة» المحرّمة؟. استعدتُ حينها واقعة، إذ اضطررتُ لصرف خمسمائة ريال فقال عامل البقالة؛ عندي فقط أربعمائة، فقلتُ: هاتها، ويبقى لي عندك مائة، فسمعنا أحد الحضور وعلّق: ما يجوز، هذه صورة من صور الربا. الفقه (فهم) خاص يتجاوز الفهوم العادية، وقدرة عقلية على الاستنباط تفوق عقلية التقليد والمحاكاة، ومِراس قائم على مراعاة كُليّات الشريعة عند تطبيق الجُزئيات، وفق روح النصوص القطعية التي جاءت بالتيسير ورفع الحرج وحفظ المصالح والمقاصد، إذ ليس الفقه محصوراً في حلال وحرام. فالمباح أوسع الأحكام التكليفية، والأصل في الأشياء الإباحة، وهناك مباح بذاته، ومباح لغيره، مثل المباح للضرورة، والمباح بالعُرف، والمباح بالسكوت عنه. الرِّبا المنصوص عليه لا يتحقق بصورة العقد أو التصور الهيكلي للتقايض بل بالعزم، والقصدية، حتى إن كانت الصورة الشكلية ظاهرها القبول، كصورة بيع صحيح يُعقد لتمرير تبادل مال بمال مع زيادة على المشتري ومثالها شراء سيارة بضعف قيمتها بثمن مؤجل واسترداد البائع لها برأس مالها «وإنما الأعمال بالنيات». ورد في بعض العصور ما سمي بفقه النوازل وهي معالجات فقهية لمستجدات عصر ما، وأحسب أن الفقه الإسلامي بحاجة إلى…

تشويه العلمانية

السبت ٠٩ سبتمبر ٢٠١٧

ليس هناك مما تنتجه البشرية، خير محض، ولا شر خالص، وكما يروى عن أُمِّ الإمام مالك (لعل الخير كامن في الشر) والقواعديون يرون أنه ما من مصلحة إلا وهي مشوبة بمفسدة بما في ذلك العبادات، فالصلاة مثلاً تقتضي القيام من النوم وقت البرد الشديد، وترك المرقد الدافئ، والوضوء أو الاغتسال، والخروج للصلاة وكل هذا مدرج في خانة إفساد متعة النائم. وبما أننا مجتمع سمّيع، وعاطفي فمن السهل التأثير علينا، بغرس انطباعات سلبية عن كل ما هو إيجابي، وكم حكمنا على بريء بالذنب، وأصدرنا العقوبة غيابياً بناء على كذبة محبوكة، أراد بها متملق النيل من خصم له، أو منافس، بدافع غيرة أو حسد أو تصفية حسابات خاصة، علماً بأننا نردد في أمثالنا (بين الحق وبين الباطل أربعة أصابع) أي المسافة بين الأذن وبين العين. منذ مائة عام تقريباً، تنافس العالم والفيلسوف العربي أحمد لطفي السيد مع مرشح آخر على مقعد تمثيل إحدى دوائر انتخابات البرلمان المصري، فعمد المنافس له إلى إشاعة أن أحمد لطفي السيد (ديموقراطي)، وبما أن المجتمع بسيط، ولا يعرف شيئا عن الديموقراطية، بدأت الناس تتعوذ بالله منه ومن ترشيحه، فانطلت الخدعة في الدورة الأولى، وبعد خمسة أعوام اكتسح السيد كل الدوائر الانتخابية، وعلم الناس أنهم أكلوا المقلب من منافس غير شريف، وحرموا أنفسهم من شرف تمثيل أفلاطون الأدب…

أيام الوقاف وصُفّة أرباطعش

الجمعة ٢٥ أغسطس ٢٠١٧

وقف الفقيه في المسراب، وكلما مرّت عليه سيدة أو بنت استوقفها، احتج المؤذن: وشبك كل ما لقيت لك مرة وقفتاها بقربتها فوق ظهرها، وانفلت لسانك: أنا فدا بطنك، أنا فدا بطنك؟ ردّ عليه: منين تسمع يا سمي الديك، والله لو تلحقني كلمة منك ما عاد تقول (أ) من فوق المسيد، وإني لأندرك بأذنك. اعتذر المؤذن، وانحنى وقبّل ركبة الفقيه، وحلف أنه ما يتعاودها، هدأ الفقيه وقال: لا تنس ما وظّفك مؤذن إلا آنا مع أني أعرف خباياك، وأردف: أتهرج معهن بقال الله، قال رسوله، قال المؤذن: لكني شفتك أمسي تقبّع على البيبان آخر الليل خصوصاً بيت الأرملة الميتّم. تيقن الفقيه أن المؤذن عرف سرّه، ولزمه من الكف اللي تعوّره، لكنه لم يضعف، وانفعل عليه وشتمه وقال: عوّدت في مراغتك يا ربيطة، قم أذّن للمغرب. صلى بهم الفريضة وتمتم بتسابيح من طرف اللسان، ولزم مكانه حتى فرغ المسيد، خرج يطرق الأبواب منبهاً بدخول العشر. توقف أمام منزل شاعر القرية ثقيل السمع، وكرر عبارته: دخلت العشر، فردّ الشاعر عليه: أي حشر حشروك يا فقيه الدمنة. جمعت الجدة رفعة أحفادها وحفيداتها في حضنها، وقالت: يا سفاني بكرة أوّل الوقاف، دخيلكم لا تحذفون طير، ولا تكسرون عود، ولا تمدون أيديكم في حق غيركم، ولا تؤذون دجاج الجيران، ولا تحذفون بسة، ولا تطاردون كلبة، ولا…

طاح الرخا في الديرة

الجمعة ٢٩ أبريل ٢٠١٦

كان فقيه قريتنا يؤم أربع قرى يوم الجمعة لندرة الفقهاء. ولكثرة مشاغل القرويين وانصرافهم إلى مصالحهم. ولم تكن إقامة الصلاة إشكالية، فحيثما تولوا فثم وجه الله. وينال الفقيه مقابل إمامته مُدّ ذرة في الخريف. ومد حنطة في الصيف من كل منزل. ينطلق الفقيه يوم الجمعة فوق ظهر حمارة بيضاء مخطمة ومصبوغة الجبهة بالحناء وكتاب (الحكمة البالغة) تحت إبطه. يبدأ بالقرية الأبعد ثم الأقرب فالأقرب. حتى ينتهي بجماعتنا. كانت القرية منظومة عمل أو عمالة. ولم يكن المعيب سوى البطالة. جاءت الطفرة وتنامى عدد الفقهاء والوعاظ. ومن اللافت أن أحد شعرائنا الجميلين لم تسعفه الراحلة (الصوت) على مجاراة الفرسان فتحول إلى إمام وخطيب وراق، يعالج من السحر والعين. وفي إحدى القرى خشي معلم من الفراغ بعد التقاعد فعمل مهندس آبار يحدد للناس موضع الحفر. وذات صباح دعاه أحد القرويين يبصّر له ويبشره بالماء، فجاءت زوجة القروي بقهوتها فصاح زوجها «عوّدي وراك هذا يشوف الماء ورا حُلّق الصفيان وإنتي ما فوقك إلا طمرة». وبما أن هندسة الآبار لم تعد عليه بما توقع من مردود أطلق اللحية وقصر الثوب وبدأ يمارس الرقية الشرعية وتكبس الخلق حول منزله. وبحسب أحد الأصدقاء فإن (طقاقة) اعتزلت الطق على الدف. واتجهت لطق الحنك وحازت لقب ناصحة. ومما يُروى أنها تقضي النهار في الدعوة والوعظ وتالي الليل في قصور…