سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

عصر البريد

الخميس ٣١ مارس ٢٠١٦

عندما كنت صغيراً (منذ زمن بعيد) كان ساعي البريد يأتي في الصيف إلى القرية مرتين في الأسبوع، على حصان رمادي، أشيب ومُتعب. في الشتاء لم يكن يأتي، لا أحد تقريباً في القرية، ولا ضرورة للبريد. وعندما أصبحت فتى، صار الساعي نفسه يأتي، أيضاً مرتين في الأسبوع، ولكن على دراجة بخارية يبدو أنه اشتراها مستعملة. يوم البريد، في الصيف، كان مفرحاً مثل يوم العطلة. تصل الصحف إلى مشتركيها متأخرة قليلاً، ولا أهمية اطلاقاً لذلك. وتصل أحياناً الرسائل إلى الوالهين في زمن الصبا. وهناك الرسائل التي لا تصل، لا في اليوم الأول ولا في الثاني، لا على الحصان الرمادي الساكن مثل عمره، ولا على الدراجة البخارية الصاخبة الساخطة الخارقة هدوء القرى وصمتها الطويل. عندما سافرت وأنا في العشرين، كانت أول رحلة لي إلى مركز البريد. فجأة، رأيتني وحيداً مثل سائر البشر في المدن الكبرى، وليس لي من أخاطبه سوى الأصدقاء. وجلست أكتب الرسائل، ثم أحملها إلى مكتب البريد. وسرعان ما صار وجهي أليفاً هناك. وزياراتي. فالموظفون اعتادوا على أن الغرباء في بداياتهم، تكون الرسائل صلتهم الوحيدة بالعالم. وربما أحياناً مصادفة في مقهى. الباقي زيارات صامتة إلى المكتبات العامة وجولات بلا نهاية في الحدائق. وكان لك أن تسأل، كل يوم، عاملة «الاستقبال» في النزل القديم: «هل من بريد اليوم يا مدام مولان؟». وكانت…

نظرة الروس إلى آدابهم

الإثنين ٢٨ مارس ٢٠١٦

لعل الكنوز الأدبية الروسية هي الأغنى في العالم، كما يرى الحماسيون. ولكن هل يعقل أن يكون كنز أدبي هو الأهم، حتى لو كان خاليًا من هوميروس وشكسبير وغوته؟ قرأت في «موسكو تايمس» استفتاء بين الروس حول الأدباء الأكثر شعبية. وكان في اعتقادي أن الأكثرية سوف تقترع للشاعر الكسندر بوشكين والروائي فيودور دوستويفسكي. أخطأت. تقدم الكونت ليو تولستوي لائحة العشرة الأوائل بـ45 في المائة يليه دوستويفسكي بـ23 في المائة، ثم تشيخوف بـ18 في المائة، وحل بوشكين رابعًا بـ15 في المائة، ثم غوغول بـ13 في المائة، وميخائيل شولوخوف بـ12 في المائة، وبولكاغوف بـ11 في المائة، وتورجنيف بـ9 في المائة، وماكسيم غوركي 7 في المائة، ولير منتوف بـ6 في المائة. مفاجأة؟ تقريبًا، لا. الروس يعرفون آدابهم ويتفاعلون معها أكثر من أي شعب آخر. لكنني أعتقد أنه لو أجري الاستفتاء في فرنسا، أو بريطانيا، أو ألمانيا، لكان حل دوستويفسكي في المرتبة الأولى، متقدمًا تولستوي بالنسبة نفسها. لا تشرح «موسكو تايمس» الأسباب على الإطلاق. ولا تلحظ مثلاً أن ميخائيل شولوخوف (هادئا يمر الدون) عندما أُعطي نوبل الآداب قيل إن السبب هو مسايرة الاتحاد السوفياتي. في حين لا يرد في اللائحة، تحت أي نسبة، اثنان من حملة نوبل المعاديان للسوفيات، أي بوريس باسترناك (دكتور جيفاغو)، وألكسندر سولجنتسين أشهر المنشقين على الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي. يقال…

مأدبة في القلعة

الخميس ٢٤ مارس ٢٠١٦

دوَّن الرحالة والدبلوماسيون الأجانب، الأشياء البسيطة التي لا نعيرها اهتمامًا. المعتمد السياسي البريطاني في الكويت هارولد ديكسون (1929) سجل أدوات المطبخ في الخيام. الرحالة الدنماركي رونكاير دوّن بالتفصيل حركة السوق في الكويت أوائل القرن العشرين. البريطاني تيسيجر، سجل عادات البدو البسيطة، وتوقف عند الشيخ زايد يوم كان حاكمًا على العين، ليصف كيف يدعو جميع الناس إلى الغداء معه في «القلعة» هناك. إذا أردت أن ترسم صورة حياتية مفصلة للعالم العربي منذ القرن الثامن عشر، عليك بما ترك الأجانب من كتابات ورسائل ومذكرات. رسائل فلورانس نايتنغيل، مؤسِسة مهنة التمريض، إلى أهلها من مصر. ورسائل الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، من إسكندرية القرن التاسع عشر. لم يصف فلوبير خلال إقامته في مصر البيوت والشوارع فحسب، بل ذهب أيضًا إلى الأماكن الممنوعة ليكتب عنها. أدب الرحلات هو أدب التاريخ والجغرافيا والجمال والأسطورة والحياة. لولا الرحالة والكتّاب والمستكشفون والرسامون، لكان ثلاثة أرباع العالم، على الأقل، مجهولاً بلا أثر. طالما حلمت منذ أن انتقلنا إلى العيش في لندن، أن أجمع لوحات روبرتس وإدوارد لير عن الشرق، لكنها كانت أبعد من أحلامي بكثير. وذات مرة رأيت لوحة ضخمة وشهيرة لإدوارد لير معروضة في إحدى واجهات بوند ستريت، فذهبت إلى صديق مقتدر وقلت له هذه أجمل لوحة عن لبنان. لكنه لسبب عنده، لم يتحمس كثيرًا للفكرة. لا أعرف…

مجزرة بروكسل

الأربعاء ٢٣ مارس ٢٠١٦

قال شاب تونسي لمراسل «نيويوركر» إن «داعش» سوف تحكم العالم اجمع بالعدل والانصاف، وتنشر السلم في جميع الأنحاء. لكن يبدو أنه حتى ذلك الحين، سوف تحرق الطيارين في الأقفاص، وتقطع رؤوس الرهائن على الشواطئ، وتسبي النساء، وتسخّر الأطفال، وتفجّر المطارات والقطارات والمترو. الرسالة في تفجيرات بروكسل كانت متعددة: أولاً، ضرب أوروبا في قلب عاصمتها. وثانياً، القول إن اعتقال منفذ انفجارات باريس مجرد صفر، لأن الإرهابيين النائمين سوف يستيقظون في اليوم التالي إلى ما هو أكثر همجية وعدمية. لم يعد ممكناً النظر إلى حرب الرعب إلا بمنظار كوني. فأول ما خطر لي حين سماع نبأ بروكسل، هو أن هذا تصويت آخر إلى جانب دونالد ترامب، وإرغام لفرنسا على تمديد حالة الطوارئ، والمزيد من رفع الأسوار عالياً في وجه اللاجئين. لدينا مجموعة مطالب ومظالم وشكاوى من الأنظمة العربية، وعهود الركود والتخلّف والفقر، وبدل أن نطلب حلها في بلداننا، نريد أن نحلها في أوروبا. وبدل أن نحمل مسؤوليات افشال نصف قرن، نريد أن يفشل الآخرون ايضاً. واسوأ معالم هذا النحر والانتحار الجماعيين، هو ردود فعل المتملقين ومتسولي الإطراء، الذين لا يرون أي خطأ إنساني في الدفاع عن العنف والقتل والسلوك الهمجي. هؤلاء يؤلبون على العرب جميع الناس. ويساهمون، مثل جزاري باريس وبروكسل ومدريد، في رسم صورة جماعية مقيتة، للملايين من الناس العاديين والعاقلين…

ليست مزحة

الأحد ٢٠ مارس ٢٠١٦

تحظر جمعية أطباء النفس الأميركية على أعضائها إعطاء الرأي في أي شخصية عامة، باعتبار أنه يساوي أحيانًا الحكم بالإعدام على إنسان لم تعالجه عن قرب ولم تصغِ إليه ولا تعرف عنه سوى ما يقال. طُرحت المسألة مجددًا بعد صدور أحكام عامة على دونالد ترامب وتصرفاته وأدائه المثير للسخرية والخوف والتقزز معًا. كثير مما يفعله ترامب يقع تحت باب «البروباغندا»، أي الدعاية الفاقعة مدحًا لنفسك وذمًا لخصومك. وبعض البروباغنديين يذهب إلى درجات قصوى في الكذب من دون التوقف عند أي رادع أو قاعدة، خصوصًا في الدول لاغية القوانين، كما في بعض العالم العربي. وإذا كان توفيق عكاشة قد شكّل ظاهرة مثيرة ومحيرة في رحلاته الذهنية غير المحدودة، فإن بعض القنوات «الجديّة» تحولت إلى مصانع يومية لتسفيه الحقائق ونشر الأفكار الهابطة، من دون أي محاسبة. وتحت ستار «حرية الرأي» تشن التلفزيونات حملات مدمرة خالية من أي ضابط أخلاقي. وحتى الصحف الكبرى تسمح لكتّابها، أو محرريها، بإطلاق النعوت الرخيصة ما دام الشخص المعني «لا يخيف»، خارج القانون أو داخله. وفي لبنان تلجأ القنوات على اختلاف مقاييسها في الحرية والقانون، إلى مقدمة سياسية لنشرات الأخبار، يقال فيها كل ما يقال وما لا يقال. ولعل قنوات لبنان هي الوحيدة في العالم التي لها «مقال افتتاحي» أسوة بالصحف المكتوبة. ولا تخضع هذه «الافتتاحيات» لمعايير ومفاهيم المقال…

صورة المثقف مثقفًا

الجمعة ١٨ مارس ٢٠١٦

قبل أسابيع أعطى جورج طرابيشي مقابلة إلى مجلة «أثير» بعنوان «ست محطات في حياتي». وفي إحدى هذه المحطات يقول إنه ترجم شابًا أعمال سيغموند فرويد عن الفرنسية، وليس عن الأصل الألماني، والآن يرغب في العودة إلى تنقيحها بعدما تحصل عبر السنين الماضية على مزيد من العلم والمعرفة! تلك صورة عفوية عن رجل أمضى عمره يحفر في ثقافات العالم، مثل عالِم آثار، لا يترك حبة رمل أو حجرًا أو حرفًا للصدف. اختار طرابيشي الجزء الأكثر صعوبة في العمل الأدبي: الفكر والبحث والجدل. واختار، صامدًا، الجزء الأقل شعبية في العمل الثقافي، كاتبًا ومترجمًا. واختار، خصوصًا، الجزء الأكثر علمًا والأقل شعبية ودخلاً. ومن بين نحو 300 كتاب في التأليف وفي الترجمة، لم يخرج عن القاعدة يومًا. رأى البعض أن المفكر السوري، الذي نفى نفسه إلى باريس منذ أربعة عقود، أضاع كثيرًا من الوقت في متاهات لا ضرورة لها، منها النزاع الفلسفي الحاد مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري. وقد أخذ الجابري الخلاف إلى مسالك شعبوية خارجة على أي سياق فكري. تاركًا لطرابيشي المرارة والخيبة، بما كان يعتقده حوارًا فكريًا سوف يترك أثرًا دائمًا في بحيرات الركود العربي. تنقل طرابيشي مثل معظم أهل جيله في مراحل كثيرة من القلق والتحولات. وبدأ حياته بعثيًا، لكنه خرج من التجربة مبكرًا. ثم خرج من سوريا إلى لبنان،…

«مبادئ» أوباما

الثلاثاء ١٥ مارس ٢٠١٦

النص المطول الذي نُشر في مجلة «أتلانتك مانثلي» تحت عنوان «مبدأ أوباما» يحتاج إلى دراسات ومناقشات كثيرة لأنه يضيء على نفسية وسلوك رجل يرأس الولايات المتحدة منذ عقد تقريبًا. سوف أكتفي في هذه المساحة ببضع ملاحظات: الأولى، أن رئيسًا لأميركا مقتنع في ذاته بأن في الإمكان القول، «وداعًا للشرق الأوسط» لأن هذه منطقة مشاكل معقدة، ولا بد من استبدال آسيا بها، بلاد المستقبل والفرص المليئة بالوعود. ويجدر بالذكر أن هذه كانت قناعات أوباما منذ البداية. لا جديد إلا في التوسع بالشرح. والملاحظة الثانية، أن هذا أول رئيس أميركي يستخدم عبارة مبتذلة مرتين رغم توافر البدائل اللغوية: فالحرب الليبية ليست «هراء» بل ما يشبه ذلك صوتيًا ولا يجوز نشره. وفي مرة ثانية يلجأ إلى الكلمة نفسها بدل المتوافر القابل للنشر. المحامي السابق، وأستاذ القانون، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو حركة الحقوق المدنية، ورئيس أميركا يقول بالحرف، إن على السعودية وإيران أن «تتقاسما» المنطقة. لم أقرأ مصطلحًا استعماريًا إمبرياليًا فجًا من هذا النوع حتى في حملة دونالد ترامب. هذه المنطقة المعقدة التي ورثها أوباما عن أجداده، يوزعها مناصفة بين السعودية وإيران، ويذهب مرتاح الضمير إلى التقاعد حيث ينصرف إلى وضع الكتب المدرَّة لثروة العائلة. الحقيقة أن الرجل لم يفعل شيئا آخر خارج الصياغات الأدبية التي يهواها. رحلة طويلة إلى البيت الأبيض، وصور للعائلة،…

مكتبة البرج

الأربعاء ٠٩ مارس ٢٠١٦

كان غسان تويني مفتونًا بكل ما يذكّره بلبنان الذي عرفه. ولبنان الذي عرفه كان مدنًا وقرى صغيرة. وكل مدينة أو قرية فيها «ساحة». وفي هذه الساحة يلتقي جميع السكان. وأجمل وأهم ساحات لبنان كانت «ساحة البرج»، قلب بيروت. فيها كانت فنادق العاصمة وقيادة الشرطة. ونصب الشهداء، ومحطات الباصات القادمة من المناطق، ومحطة الترامواي الموزِّعة. وفيها يتجمع باعة الصحف بأعلى أصواتهم. ومن حولها دور المسارح والسينما. ومن حولها أسواق اللحوم والخضار ودور الصحف. عندما أنشأ غسان تويني دارًا كبرى لـ«النهار» «عاد» بها إلى ساحة البرج. وفي الطابق الأرضي من المبنى، أنشأ مكتبة حضارية سماها «البرج». ثم أصدر عن «دار النهار للنشر» مجلدًا رائعًا عن ساحة «البرج» شارك فيه كبار الكتّاب والمؤرخين والرسامين، نفدت نسخ الطبعة الأولى والثانية منه، وللأسف، لم تصدر طبعات أخرى. الأسبوع الماضي أعلنت شادية غسان تويني نبأ صعبًا عليها وعلى أولئك الذين كانوا يعدون زيارة مكتبة البرج جزءًا ممتعًا من حياتهم في بيروت. المكتبة، مثل جمالات كثيرة أخرى، سوف تغلق أبوابها. مَعلم آخر في وسط بيروت، يترك الساحة للفراغ. الوسط الذي كان يلتقي فيه اللبنانيون والعرب بدأ في النزع منذ أن احتله «حزب الله» وحزب التيار العوني تحت شعار «الاعتصام». وقد استمر ذلك «الاعتصام» عامين، نسي خلاله الناس «الوسط»، وتذكروا فقط كلمة تاريخية قالها في نهايته النائب العوني…

خواتم باكية

الثلاثاء ٠٨ مارس ٢٠١٦

ليس هناك من اسم لامع في المسرح الكوميدي المصري إلا وكان خلفه سمير خفاجي، منتجًا أو مخرجًا. من عادل إمام إلى شريهان، أو أي اسم آخر يخطر لك. لذا، سوف يخطر لك أيضًا أن مثل هذا الرجل صنع ثروة طائلة ما دام الأجر الذي يتقاضاه أي من نجومه يفوق الأرقام الستة. لكن خفاجي الذي يتحدث بمرارة في مقابلاته الصحافية، يشكو من العقوق، ومن القلّة، ومن الشلل النصفي الذي هدّه. ويتذمر من أن أحدًا من نجوم مداره السابق لا يسأل عنه، فيما عدا شريهان. لا أعرف ماذا يحدث ولماذا يصل كبار أهل الفن إلى هذه النهايات البالغة الصعوبة. فقد كانت أمينة رزق، على مدى عقود، «النجمة الكبرى»، لكن سنواتها الأخيرة كانت فقرًا وبؤسًا. و«شرير» الشاشة توفيق الدقن (أحد اكتشافات خفاجي) مات بائسًا رغم سنوات النجاح الطويلة. وشكا كثيرون مثله أوضاعهم إلى نقابة الفنانين. وفي لبنان غاب في السنوات الماضية عدد من الفنانين والفنانات في حالات محزنة بلا حدود. طبعًا، يُفترض أن لا أحد في نجاح سمير خفاجي المالي، أو لا أحد يمكن أن يفهم كيف أن نجمة مثل سعاد حسني تصل إلى ما وصلت إليه في سنوات لندن التي انتهت بخاتمة مأساوية وغموض أليم. هناك حالات لم نعرف عنها. وهناك في المقابل الفنانون المتهمون بـ«الحرص الشديد» مثل أم كلثوم وعبد الوهاب…

بحر البيان

الخميس ٠٣ مارس ٢٠١٦

قال فيه طه حسين إنه لا يغترف من بحر فحسب، بل هو يتدفق مثل بحر. وقال فيه محمود زكي باشا إنه يشبه ماكينة الخياطة «سنجر» لشدة غزارته وقدرته على «التطريز» والتنوع والكتابة في شتى المواضيع والمسائل والقضايا. وعندما طلب إليه رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق محمد كرد علي أن يجمع مقالاته في مجلدات، كتب إليه معتذرًا: «فإني في أوروبا منذ اثنتي عشرة سنة، وفي الشهر الواحد من هذه المدة كنت أحرر لا أقلّ من عشر مقالات في الشهر، ففي السنة 120 مقالة، ففي الاثنتي عشرة سنة 1440 مقالة، فإن جعلت كل مقالة 3 صفحات من قطع هذا المكتوب، فهذا فوق أربعة آلاف صفحة (...). كلا، هذا لن أقدر على طبعه، وهذا كله ذهب في الجرائد الطائرة». كان الأمير شكيب أرسلان أوائل القرن الماضي أحد رموز عصر النهضة، والوحيد الذي عُرف بلقب «أمير البيان»، كاتبًا وخطيبًا ومفكرًا وداعية سياسي من مناضلي الحركة الاستقلالية. عُرف بلقب آخر هو «كاتب الشرق الكبير». وكانت نضالاته ومعارفه وصداقاته مع كبار أهل النهضة أكبر بكثير من حجم بلده لبنان، الذي لم يكن قد استقل بعد. وقد حارب بريطانيا وفرنسا. فحاول الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة التقرب منه. ومن أصدقائه أحمد شوقي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمود سامي البارودي، ومحمد رشيد رضا. ولعل ثمة شبهًا بين سيرته وسيرة…

نصف هجوم ونصف تراجع

الخميس ٢٤ سبتمبر ٢٠١٥

استعاد فلاديمير بوتين ما فقده في ليبيا وأوكرانيا. تدخَّل عسكريًا في سوريا رافعًا على الدبابات صورة بشار الأسد، فتراجعت أميركا خطوة أخرى معلنة القبول بالأسد إلى حين، بعدما كانت تصر، منذ أربع سنوات، على ذهابه فورًا. لا شيء نهائيًا طبعًا. لا في الاندفاعات الروسية نحو استعادة مرتبة الشراكة الأولى، ولا في انحسارات أميركا التي تحوّلت في ربع القرن الماضي من دولة أولى مبتهجة بالانتصار في الحرب الباردة، إلى دولة تكاد تفقد الصفة التي لازمتها منذ الحرب العالمية الأولى. ما بين رعونات جورج دبليو بوش وانكفاءات باراك أوباما، أضاعت الولايات المتحدة الكفة الراجحة في ميزان القوى العالمية. وفي سوريا تراجعت أمام مواجهين، النظام و«داعش». ومضى زمن لم نعد نسمع فيه عن الحرب ضد «داعش»، أو أي انتصار عليها. وتبدو حرب العراق – أميركا لاقتلاع «الخلافة» من المدن الكبرى التي احتلتها، وكأنها تجري في الخفاء في مكان ما على شواطئ الأمازون، لا على شواطئ الفرات. وقد تردد أوباما في إعلان الحرب على «داعش» إلى أن فاجأ المستر جون كيري العالم بالقول: إنها حرب تستغرق 5 سنوات. ما هي هذه القوة القادرة على مواجهة التحالف الغربي نصف عقد؟ وها هو بوتين آتٍ أيضًا لمحاربتها. ومن دون أن يرتفع صوتها تدفعه الصين وتشجعه. ولديها شكوك بأن المتطرفين الصينيين هم وراء انفجار بانكوك «الجهادي». بالأمس…

اليرموك وأخواته

السبت ١٣ يونيو ٢٠١٥

ذكرت صحيفة «العربي الجديد» أن 1100 فلسطيني قتلوا في مخيم اليرموك منذ 2011 حتى الآن. هل هم أغلى من 230 ألف سوري قُتلوا في تلك الفترة؟ دعونا لا نزيد الكوارث مأساوية. هذا مثل القول: ما لنا ولآثار تدمر؟ الآن همّنا البشر لا الحجر. فالحجر هو تاريخ الأمم، والشاهد على تاريخ البشرية، وهو أحيانا، مصدر رزق الأحياء والفقراء والأمم. وعندما ذهبت مرة إلى تدمر، لم يأخذني فقط بهاء الحجر القائم في وجه الشمس منذ قرون، بل أُخذتُ أيضا بأنس أهل المدينة وبسطائها، والذين لا يزالون يعيشون من دخل الحجارة الرائعة، وكأنهم في أيام زنوبيا وقوافل روما. 1100 فلسطيني في مخيم لا فرق فيه بين الموت والحياة، رقم معيب. لأن قدر الفلسطينيين أن يُقتلوا في أرضهم، وليس في ضواحي دمشق، ولا في صبرا وشاتيلا. وما من فارق بين أن يُقتلوا دفعة واحدة، أو في التعذيب البطيء، والتجويع، والحصار غير الإنساني. ليس هذا حظ الفلسطينيين من «قلب العروبة النابض»، نظامًا، أو معارضة. فقد كان يقتضي أن يعامل المخيم، من قبل الفريقين، على أنه جزيرة، أو محميّة بشرية، لا يورطه أحد في الصراع، ولا يكبّده أحد هذه الأثمان المريعة في مواجهة لا علاقة له بها. كان هذا أشبه بإطلاق اسم فلسطين على أسوأ السجون سمعة في سوريا. مسكينة في كل مكان، «قضية العرب الأولى».…