تركي الدخيل
تركي الدخيل
سفير خادم الحرمين الشريفين في دولة الإمارات العربية المتحدة

كشفُ اللثام عن عذب الكلام!

السبت ٢٢ يناير ٢٠٢٢

لما كان «المرء بقلبِه ولسانه»؛ فإنَّ «لسان العاقل وراء قلبه، فإذا أراد أن يتحدَّثَ، عرض كلامه على قلبه، فإنْ كان الكلام له؛ أمضاه، وإن كان عليه أمسك عنه»، كما قالت العرب. إنَّ للسان حِليةً، وللكلام جمال، وللمنطق زينة؛ وإنَّما يتمايز حديث الخلق، بحُسن الألفاظ، وانتقاء أطايبِ الكلمات، وجواهر الجُمَلِ والعِبارات. تكلَّم رجلٌ في مجلس عبد الله بن عباس، فخلط، فقال ابن عباس: «بكلام مثلِك رزق الصمت المحبة». اعتبر الثعالبي أنَّ أفضلَ وصفٍ مُطرِبٍ للكلام المعجب، كان للصَّاحب بن عباد (ت 385 هـ) فمنه قوله: «ألفاظٌ لها من الهواءِ رِقَّتُهُ، ومن الماءِ سلاستُه، ومن الشَّهدِ حَلَاوتُه». قال الثعالبي في كتابه (من غابَ عنه المطرب): «ليس لواحد من الوصف المطرب للكلام المعجب ما للصاحب أبي القاسم بن عباد... فمن مختار ذلك: «ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعانٍ كأنها قلب عان. استعارت حلاوة العتاب بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق يوم الفراق. وألفاظ لها من الهواء رقته، ومن الماء سلاسته، ومن سحر نفثتُهُ. ومن الشهد حلاوتُه. كلام كبُرد الشباب، وبَرد الشراب. كلام يهدي إلى القلوب روح الوصال، ويهبُّ على النفوس هبوب الشمال. ألفاظ حسبتها لرقتها منسوخة من صحيفة الصبا، وظننتها لسلاستها مكتوبة من إملاء الهوى. كلام كما هبَّ نسيم السحر، على صفحات الزهر، ولذّ طعم الكرى بعد برح السهر. كلام يقطر صرفاً، ويمزج الراح لطفاً، كلام…

بعض تاريخ المال… بين قبحٍ وجمال!

السبت ١٨ سبتمبر ٢٠٢١

«المال كلّ شيءٍ. ما التبّع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال. ولا يُظهر المروءة إلا المال. ولا الرأي ولا القوة إلا بالمال. ومن لا إخوانَ له فلا أهل له، ومن لا أولاد له فلا ذِكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له فلا شيء له». نصٌ جريءٌ لعبد الله بن المقفع، في سياقه معظم تعريفات المال. قال سفيان الثوري: «سمّي المال، لأنه يميل القلوب»، وهو رأي إمام اللغة ابن فارس، واعتبر الفقيه الحنفي، ابن عابدين، المال «كلّ ما يميل إليه الطبع». ولأنّ المال صلب الحياة، وقوام شأن البشر، اعتبر الإسلام حفظ المال، من الضروريات الخمس؛ التي هي سبب التشريع؛ بحسب الشاطبي؛ القائل: «هذه الضروريات مراعاة في كلّ ملّة». ولمنزلة المال، وحرمة التعدي عليه، اشْتقّت اللهجات المحلية، فكرة تعزيز الملكية الفردية للمال، وأضافتها لمعانٍ أخرى. في كثير من اللهجات المحكية العربية، قولهم: «مالي ومالك»، والمقصد؛ لا حق لك بالتدخل بمالي، كما لا يحق لي مساس مالك. غير أن المعنى تحول من المال المعروف، وهو ما يملكه الإنسان من الأشياء، إلى معنى آخر؛ إذ لا علاقة لي بك، لا أتدخل بشؤونك. كأنما أصبح الشأن الشخصي، مالاً، فانفرد كلّ واحدٍ بما يملك، مانعاً الآخر من الاعتداء على ماله؛ وهو هنا؛ خصوصياته وشؤونه. في العامية، عند بعض العرب،…

قابوس بن وشمكير… بليغ أم متصنع؟!

السبت ٢٨ أغسطس ٢٠٢١

أعترف - متأسفاً - على نفسي، أني لم أكن قبل سنوات قليلة أعرف شيئاً عن الأمير الملقب (شمس المعالي)، قابوس بن وشمكير (ت 403 هـ/ 1012م)، رابع ملوك آل زيار، وأشهرهم، وهم الذين حكموا جرجان وطبرستان في الفترة (928 - 1090م). والأسف ليس على الجهل بقيمته السياسية، بل قيمته الأدبية، وبلاغته، حيث اعتبره الزركلي في (الأعلام): «نابغة في الأدب والإنشاء، جُمعت رسائله في كتاب سُمي: (كمال البلاغة)». ينقل المؤرخون عن قابوس غلظته في سياسته، وأن هذا ما دعا المقربين منه لطلب ابنه تولي السلطة وعزل والده. ما سبق ليس لب الموضوع، بل محاولة المرور ببعض نتاج أحد الحكماء وأرباب البلاغة، فقد «كان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل، وشعر حسن»، بحسب النويري في (نهاية الأرب). «ولد قابوس في أحضان الثراء والنعمة، وارتشف الرجولة من ينبوعها، من العصاميين أبيه وعمه، وعلمته التجارب التي مرت على بيتهم: أن نوال المعالي، منوط بسهر الليالي. فنشأ جامعاً لرقة الرخاء الذي وُلد فيه، وخشونة الحروب التي تقلبت عليهم مدة أبيه، وأكسبته تصاريف السياسة بصراً بالعواقب، مقروناً إليه سوء الظن بالناس؛ فكان كيساً حازماً مستبداً»، كما ذكر محب الدين الخطيب، في مقدمة (كمال البلاغة). وأتساءل عن سوء الظن بالناس، هل وقى قابوس بن وشمكير من شرورهم؟! يجيبنا العتبي في تاريخه: «لقد كان قابوس على ما…

عندما يشهد لك خصومك!

السبت ١٤ أغسطس ٢٠٢١

بعد أكثر من ألف عام على رحيل شاعر الدنيا؛ أبي الطيب المتنبي (303 - 354هـ)، (915 - 965م)، وبعد مؤامرات كثيرة كان قد حاكها ضده خصومه لهدم بنيان أسطورته؛ ظل الرجل شامخاً كجبل، وبقي أعظم شعراء العربية، ولم تزِدْه كراهة خصومه له إلا شهرة، وعظمة، وسطوعاً، وإعجاباً به متزايداً، حتى صار في تاريخ ثقافتنا العربية مبدعاً مُغامراً بشعره في نحت حياته، ومُقامِراً بحياته من أجل أن يحيا شعره، بل هو قد مثّل وطناً من الشعر لطالما تزاحم أحفاده الشعراء على الانتساب إليه، فاستحقَّ بذلك صفة الشّاعر... الشّاعرِ، حيث «كان أبو العلاء المعري، إذا ذَكَرَ الشعراء، يقول: قال أبو نواس: كذا، قال البحتري: كذا، قال أبو تمام: كذا، فإذا ذكر المتنبي، قال: قال الشاعر: كذا». ولا عجب، وأمر المتنبي على ما ذكرنا، من أن يزداد مُريدوه يوماً بعد يوم في جغرافيتنا العربية، ويسهم هو نفسه نهاراً بعد نهار، ومن حيث درى أو لم يدر، في عقد الصلات بين الأجيال الجديدة ولغتهم العربية من جهة، وفي تأسيس مفاهيم الجمال والخير، ومقاييس الحكمة والمجد، ومعايير الإبداع ومعاني الفخر، خصوصاً عند من يقصدون بلاطه، من جهة أخرى. يقول د. مبروك المناعي: «قد تكون وسائل الاتصال الحديثة، أسهمت، اليومَ، في وصول المتنبّي إلى أعداد مهولة من البشر، إلا أن شهرته قديمة صاحبته منذ كان حياً…

بين الملك عبد العزيز ومحمد بن سلمان

الإثنين ٢٤ مايو ٢٠٢١

شرح المؤرّخُ العربيُّ الشهيرُ أمين الريحاني (1876 - 1940) في كتابه «ملوك العرب»، بسياقِ عرض مشاهدات رحلتِه إلى نجد، من أجل مقابلة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (1876 - 1953)، مؤسس الدولة السعودية، وأول ملوكها، كيف أنَّه شاهدَ في الكثير من أفنية القصور في الرياض شعراً عربياً مكتوباً «على الحائط في رواق المجلس العام. وفيه تصويرٌ لأخلاق النجديين، وقواعد الحياة، يتمشّون عليها. بل فيه ما يعكس بعض ما يخالج السلطان عبد العزيز (زيارة الريحاني لنجد هذه كانت عام 1922، وكان لقب عبد العزيز هو السلطان، حتى أُعلن في 1932 عن توحيد البلاد تحت مسمى: المملكة العربية السعودية، ولُقّب المؤسس حينها بالملك) من أليم الذكرى، ومن شريف المقاصد والآمال». ثم تحدَّث الريحاني عن بيتي شِعرٍ كُتِبَا فوق أحد أبواب قصر الملك، معتبراً فيهما مزيجاً من الحكمة، ومن الخطل، الذي أَلِفَهُ الشرقيون... مشيراً إلى البيتين اللذين كتبا فوق أحد الأبواب: لسنا وإن كَرُمَت أوائِلنا يوماً على الأنساب نَتَّكلُ نَبْنِي كما كانت أوائِلُنا تَبني ونَفعَلُ مثلما فعلوا يُشير المؤرخ الريحاني إلى أنَّه أبدى للسلطان عبد العزيز أهمية الاقتداء بالأوائل، مع أهمية تطوير ما فعلوه، فقاطعه عبد العزيز، قائلاً: «نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، ثم أمر عبد العزيز بتعديل عجز البيت الثاني، ليكون:…

«كورونا» الذي لا ينجو منه أحد!

السبت ٠٨ فبراير ٢٠٢٠

لِي ثلاثةُ من الأصدقاء، الذين أختلفُ معهم كثيراً، رغم أنّي أحبّ لقياهم من حين لحين، يجمعنا حب القراءة وينتهي بنا الحديث، دائماً، للاختلاف الودي، الذي لا تضطر معه، لإرسال رسالة اعتذار قبل النوم. أحرصُ على لقائهم حرصِي على شحذِ عقلي بكورونا، وأخباره وازدياد أرقام المصابين به، يوماً بعد يوم. وقد تعلمت من الصحافة - قبل الدبلوماسية - النظر إلى الخبر من جهاتٍ شتَّى قبل نشره، لكن الدبلوماسية، تعلمُك، الاستمتاع بالاستماع، الذي يتحوَّلُ إلى شغف يكبر، كلَّما عُدت للبيت وحيداً، كي تحلل، وتربط، وتنظر إلى كل الجهات، قبل أن تتفوَّهَ بكلمة واحدة. صديقي الأول، كان مقتنعاً بأنَّ عزل المسافرين، القادمين من جهة الوباء، هو الحل الوحيد المتاح حالياً، ولا أختلف معه كثيراً، فلا يَعدِلُ السلامة شيء، لكنَّه كان يستعمل عبارة «حبس القادمين»، وكنتُ متحسساً جداً من تعبيره، فقد قاطعته مرتين، لأخبره بأن مادة «حَبَسَ»، لا تناسب مقام المرض، ولا الوباء، ومن الألطفِ، والأدق، أن نستعملَ مادة - حجر - أي العزل الطبي، للقادمين من مناطق الوباء، حتى يتأكد الأطباء من سلامة القادم. استغرب صاحبنا ملاحظتي، التي رآها في غير مكانها، فأكمل كلامَه مستعملاً الحبس، بدلاً من الحجر. أخبرته أن الحبس، الذي يتشدَّق به، لم يكن أصلاً في ثقافة العرب، قديماً، ما دمنا جميعاً نحاول - على الأقل - الحديث عن طرق…

السعودي إماراتي.. والإماراتي سعودي

الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠١٩

انعقاد الاجتماع الثاني لمجلس التنسيق السعودي الإماراتي، قبل أيام في أبوظبي، خلال زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، دولة الإمارات، ورئاسته، مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة، للمجلس، جاء ضمن احتفالات الإمارات بيومها الوطني الثامن والأربعين، الذي نباركه للإمارات، قيادة وشعباً، وندعو الله أن يحفظها بأمن وخير ورخاء وعز. وضمن الاحتفالات البهيجة، احتفل أهل الإمارات ومسؤولوها في استقبال فاخر، وحفاوة غير مستغربة، بالأمير محمد بن سلمان، بما يُظهر حباً مُقدراً للمملكة العربية السعودية، ولملهم التغيير فيها، وولي عهدها الأمين. انعكاس محبة أهلنا في الإمارات للأمير محمد بن سلمان، كانت تنطق بها الوجوه، قبل المباني التي تزينت بصور وعبارات الترحيب، بأبي سلمان، وأضيئت بألوان العلم السعودي الأخضر الذي يجسد نماء وتنمية. ما أسفرت عنه اجتماعات مجلس التنسيق بين البلدين، من مذكرات تفاهم، ومبادرات استراتيجية مشتركة، أكدها الشيخ محمد بن زايد، في تغريدة قال فيها عن العلاقات السعودية- الإماراتية: «ماضون بتعزيز تكامل علاقاتنا الاستراتيجية، في المجالات كافة». هل هناك أجمل لشرح العلاقة بين البلدين، من استشهاد ولي عهد أبوظبي، بحديث الوالد المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عندما سُئِلَ…

الحب… والاختراع!

الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠١٩

العظماء، هم الذين يخترعون الاختراعات التي تشكل فرقاً في حياة البشر، فتحول المعاناة، إلى راحة، والألم، إلى شفاء، والصعوبة، إلى سهولة. إنهم أولئك الذين يكتشفون الأدوية، التي تشفي من الأسقام، والأمصال، التي تصبح ترياقاً لكل علة كانت تجثم على نفس المصاب بها، والقريبين منه، والمعرضين للعدوى إذا كانت هذه الأدواء، من القابلة للانتقال بالعدوى. إنهم، أشخاص مميزون، يهبهم الله، الذكاء، والجَلَدَ على ممارسة عشرات المحاولات الفاشلة، وربما مئات المحاولات، دون أن يحبطهم تكرار الفشل، تلو الفشل، ولو استسلموا للإحباط، وأعرضوا عن مواصلة العمل بهمم تطاول عنان السماء، لما أصبحوا هم العظماء. إنهم أولئك الذين يهبون أنفسهم، وأوقاتهم، وعقولهم المميزة، للبحث مئات الساعات، بدأب لا يعرف الملل، ويقضون في معامل الأبحاث، الأيام والليالي، يرتكبون الأخطاء، تلو الأخطاء، والتجارب الفاشلة، إثر التجارب الفاشلة، حتى تضيق دائرة الخطأ، فتظهر بارقة النجاح، وضوء الصواب، ولا تسل ماذا يغير هذا النجاح، في حياة البشرية، لأنه يقلبها في كثير من الأحيان، رأساً على عقب، ويحولها من حالٍ، إلى حال! كيف كانت الحياة، ستكون، لو لم يخترع السيد ويليس كارير، جهاز التكييف، في عام 1902؟! ولا أحد يعرف معنى الإحساس بهذا السؤال - المعاناة، والأكثر إحساساً بعظمة هذا الاختراع، هم الذين يعيشون في بلدان، مثل بلداننا في الجزيرة العربية، حيث لا تخشى درجات الحرارة عندنا، من معاقرة…

الصديق الذي لا يخون!

الثلاثاء ٢٩ أكتوبر ٢٠١٩

اسمحوا لي، أيها السيدات والسادة الكرام، أن أحدثكم اليوم، عن غذاء العَقل، وغاية الفؤاد، ومقصد الشغف، ومستودعِ الحكمة، ومكمن الخلاصات، ومستقر الزُبَد. من عرف قدره، عَدَّه غاية المُنى، ونهاية المراد، فهو المنقوعُ بالمعْرِفَة، ونتاج عَرَق الْمُتَضَلِّعين. مكمن إجابات السَّائِلين، ومَوضِعُ آمالِ الباحثين، وبهجة النَّاظِرين، وذكرى العَارِفِين، وسلوى العُلماء العامِلين. هو مَصْنعُ الأسئلة، وأطيب ثَمرات الأفْئِدَة، بيتُ العَاقِل، ومَرْكَبُ طالب العَلياء. أقوى أسلحة المعَارِك، وأفسح ميادين الأفهام والمدارك. ملجأ الحيارى، والحكم الفصل بين المختلفين، ودواء الشاكين من الوحدة، والمتألمين من ضيق دائرة الأصدقاء، وطريق من يرجو الارتقاء، وعلاج من يعاني الهم والأرق. إنه الكتاب، وأنعمْ به أنيساً، وأكرمْ به جليساً. لقد كان اليوم الأول الذي حَملت فيه كتابي الأولَ على كتفي، يوم سعدٍ، وحسن فأل، حتى صرت انتظر الفراغ من كتاب، لأحمل آخر. ومن فضل الله علي، أن متعة الحصول على كتاب، فيه بحث نادر، توازي متعة إدمان التسوق عند المصابين بهذا الإدمان. لقد كانت التجربة على يفاعتها، المحطة الأولى على يقيني بأن تمام إدراك الحياة، ومعرفة بعض من فلسفتها، لا يتم إلا بطرح الأسئلة، ومتى توقفت عن خلق هذه الأسئلة وطرحها، استحلت طريداً في مهب الجهل. إن من متع الغوص في كتاب يحمل معنى جديداً، وفكرة مختلفة، وأسلوباً أخَّاذاً، أنه يضعك في موضع يلجم فيك التضخم، ويكسر فيك الكِبر الفارغ،…

من المدينة المنورة إلى نعوم تشوميسكي

الأربعاء ٢٨ أغسطس ٢٠١٩

في عام 1944 ولد الدكتور حمزة المزيني، أستاذ اللسانيات السعودي، في المدينة المنورة التي شهدت حرّاتها، ركضه الأول. الشاب المدني، وهو يرى أهمية الترجمة في المدينة، للتعامل مع الحجاج الذين لا يتحدثون العربية، وكيف كان الحديث بلغتهم، ميزة لمتقنها... هل كان يختار خلال طفولته، أن يتخصص بالترجمة، واللسانيات؟! من يدري! المدينة المنورة التي تضم بمحبة، المنتقلين للسكن إليها، وهو ما يسمى بالجوار، أي جوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومرقده، كانت جامعاً لاختلافات معرفية واجتماعية، بحكم تباين واختلاف أماكن القادمين للمدينة من العالم كله، حاملين معهم كل ثقافاتهم. وما كان موقع الولادة، إلا نتيجة وسبباً في رغبة دائمة عند الدكتور المزيني، بفتح كوى الاختلاف، وصناعة الأسئلة، والرغبة باكتشاف المزيد من الآراء. فالمدينة المتعددة الهويات، مدينة عالمية لا تقف عند نمط واحد، حتى أن الأستاذ عثمان العمير، الصحافي السعودي الشهير، الذي قضى جزءاً من نشأته بالمدينة، يعتبرها أحد أكثر مدن العالم تنوعاً، إذ تطعمك يومياً بدهشة الاختلاف وروعته، وتمنحك التكيف على فهم البشرية، واستيعاب التنوع. تخصص المزيني باللسانيات، دارساً ومدرساً، فحاز الماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس، ولم تغيبه الأكاديميا عن مشاركة القضايا العامة، على المستويات السياسية، والفكرية، والعلمية، بل والفقهية، حيث كتب وألّف حول «الأهلة»، إثر نقاش صحفي طويل، مع الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، حول حساب…

كسرٌ في سنِّ الضاحك

الخميس ٢٠ يونيو ٢٠١٩

حسبُ السعادة، أنها تضرب إليها أكباد الإبل، ويبحث عنها البشر على تفاوت أصنافهم، حتى صارت من الأشياء القليلة التي يتفق عليه الناس. البحث عن السعادة، والتطلع لها، وادعاء امتلاكها زوراً أحياناً، من أعز الأشياء التي يتساوى فيها الآدميون، وإن اختلفوا، في مسالك الوصول إليها، وطرائق اقتناصها. ولأن الموضوع يشغل الناس، من كل الطبقات والأجناس، تنافس العلماء، والفلاسفة، والشعراء، والأطباء، ولم يخرج من هذه المنافسة حتى المنجمون والعرافون، في محاولة، تأطير هذه السعادة، والقبض على زمام تعريفها، وسكب قالب يظهر ملامحها، ويبين شكلها ووجوهها، ليسلك بنو البشر، طرائق في الموضوع قدداً، مجددين عهدهم بالاختلاف، فقلَّ أن تجد من يمسك بيدك تجاه وجهة للسعادة، قريبة من وجهة الآخرين، وإن لم تطابقها! وربما، لو اتفق البشر على وصفة موحدة للسعادة، لتقاتلوا عليها! وبينما العبد الفقير إلى الله، يقلب التوصيفات المتباينة، والتعريفات المتضادة، حتى وقعتُ على بحث شائق عن السعادة، جرى في الولايات المتحدة، في ستينات القرن الماضي، كشف أن الأقل دخلاً، والمنتمين للأقليات، كانوا حريصين خلال الاستبيان على تأكيد أن الصعوبات في حياتهم بوصفهم مهمشين، ليست في نشرهم سبباً في تعاستهم، بل تعاملوا معها بوصفها أسباباً كافية للاستيقاظ من الغفلة، ومطاردة قطار السعادة السريع، الذي ينطلق مبكراً دون أن يعبأ بأحد، فينتظره! لم أندهش شخصياً، وأنا أرى أثر المضايقات اليومية المتكررة المنغصة على…

رجل له من اسمه النصيب الأوفر

الأربعاء ٢٩ مايو ٢٠١٩

قبل خمسة عشر عاماً، وتحديداً في شهر رمضان، شهدت بنفسي، حزن الناس، من كل الجنسيات في الإمارات، على رحيل رجل عظيم، أسس دولة، على أسس متينة، وبنى إنساناً، كما يليق بناء البشر، وكانت محبة الناس له صادقة، وفي الحديث: أنتم شهود الله في أرضه. كان حزن الناس على وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، صادقاً لا مراء فيه. لأحدثكم عن وطني، المملكة العربية السعودية، لا أحسب أن أحداً يمر عليه ذكر زايد، غفر الله له، دون أن يعلن دون مواربة، تقديره لشخصيته، ومحبته لرجل صدق في محبة الناس، فبادلوه صدقه صدقاً، في التقدير والإجلال والمحبة. في الحادي عشر من فبراير 2019، كان الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق، بلندن، فواشنطن، يحاضر في وزارة الخارجية الإماراتية بأبوظبي، فنقل الأمير أن الشيخ زايد، كان في آخر أيام حياته، في اللقاءات التي جمعتهما، يوصي أبناءه من بعده، بتوثيق العلاقات مع السعودية، قائلاً، بنص حديث الأمير: «السعودية هي عزوتكم إذا جار الزمن». كان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، حاضراً المحاضرة، فعلق في تويتر على نقل الأمير عن الراحل الكبير: «هي قناعات راسخة، تتجدد، وتتعزز». الحقيقة أن السعوديين يحبون الشيخ زايد، قبل أن يسمعوا بكلمته هذه، ومن سمعها، علم أنه أحسن الظن برجل عظيم، وازدادت قناعته بمشاعره. كان رحمه…