الاحساء السعودية واحة خمسة مذاهب وست مرجعيات نموذج التعايش

أخبار

منذ أكثر من خمسة عقود، لم يغيّرا جدولهما اليومي، فصوت أذان الفجر المنبعث من مئذنتي مسجدي الحي هو موعد لقائهما، إذ يسيران جنباً إلى جنب، ليدخل كل منهما مسجده، ويعودان مجددان ليترافقا إلى المخبز، حيث ينتظران خبز «الهالي»، قبل أن تعصف بهما الحكايات والذكريات، ليبدو يومهما كالمعتاد من دون تغيير.

تربط بين السعوديين عبدالله العلي (شيعي) وعبدالله محمد الكالوف (سنَّي) علاقة تعدَّت الجيرة والصداقة، فمن يراهما وهما لا يفترقان لا يستطيع أن يميز انتماءهما المذهبي، فلا اختلاف بينهما على الإطلاق. وشكّلت علاقتهما نموذجاً لأفضل تعايش في أرض التعايش الطائفي… واحة الأحساء.

تربط العلي والكالوف صداقة حميمية، انتقلت لتكون علاقة اجتماعية خاصة، إذ يؤكد الطرفان أن كل واحد منهما قام بتربية أبناء الآخر. يقول الكالوف: «منذ أن ولدنا لم نشعر بالتفرقة والاختلاف، حرص اهلنا على تربيتنا على حسن الجوار، وما يجمعنا هو الإسلام، لذا كبرنا على هذا المبدأ، وربينا أبناءنا على الاحترام المتبادل والحب والأخوّة، فكلنا مسلمون».

وأضاف: «سأذكر مثالاً واحداً يوضح الصورة. لو كان لدى أحد جيراني عزاء – لا سمح الله – ستجدني أقف إلى جواره أتلقى العزاء كبقية إخوته بعيداً من اختلافنا المذهبي. وإن كانت لدي مناسبة زواج، ستجده يعمل أكثر من إخوتي. فهذا أمر اعتدنا عليه». وعن سر نجاح العلاقة قال: «الاحترام المتبادل وعدم التعدي على الآخر، والشعور بالانتماء والأخوة، فمثلاً علي لا أستبدله بألف شخص، فمواقفه وأخوّته موضع اعتزاز وتقدير».

وقال العلي: «في كل قرى الأحساء ومدنها ستجد الأحياء خليطاً من المذاهب الإسلامية المختلفة. يعيش سكانها باحترام متبادل، وعلاقات اجتماعية تفوق الوصف. فالأحسائيون منذ زمن بعيد خلقوا مجتمعاً متماسكاً ضد أي تيار مخالف، وزيارة واحدة للمجالس الليلية المختلفة لن تستطيع أن تميز الشيعي من السنّي، فامتزاجنا أذاب جميع الحواجز والفروقات».

وتتشكل أحياء الأحساء الشعبية من منازل تشترك في الجدران، لتمثل منزلاً كبيراً يسكنه كثيرون من مذاهب مختلفة. هذه المنظومة السكنية أثرت إيجاباً في تشكيل العلاقات الإنسانية في هذه الواحة. ويقول المواطن السعودي حسين علي سلمان: «لا وجود لمصطلح السنّة والشيعة عندنا، فمثلاً والدتي كانت تدرس القرآن الكريم، وكان يحضر درسها كثيرون أصبحوا الآن مديري إدارات حكومية ومدرسين ومهندسين وطيارين، ومعظمهم من إخواننا السنّة، وكانت والدتي لا تفرّق بينهم أبداً».

وأوضح أن «العلاقة بين الطلاب ووالدتي امتدت حتى يوم وفاتها، إذ كانوا يحضرون مناوبة لزيارتها من وقت لآخر، ويسارعون لتقبيل رأسها ولا يدعونها إلا بأمي لمكانتها عندهم، هذا المثال وحده يوضح العلاقة القوية بين أتباع المذاهب المختلفة في الأحساء، ولو كان بالإمكان لسجلت لحظة تشييع جثمان والدتي وطلابها يبكون أكثر من أبنائها، أليس مشهداً جميلاً وصادقاً»؟

يعتبر الدارسون الأحساء نموذجاً علمياً وحقيقياً للتعايش بين الطوائف والمذاهب. وفي كتابه «المجتمع الأحسائي المعاصر»، يرى الدكتور أحمد اللويمي أنه «سجل التاريخ المذهبي في الأحساء حضور المذاهب الكبرى للسنة والجماعة، واستمر هذا الحضور في وجوده المتنوع، ولعب دوره الكبير في صناعة ثقافة التعايش والتمازج للمجتمع الأحسائي، فلم يكن التعدد سنياً – شيعياً، بقدر ما هو تنوع مذهبي متعدد المشارب».

ويتبع سكان الأحساء من السنّة المذاهب الأربعة (الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي)، فيما يتبع الشيعة ستة مراجع هم: السيستاني، وخامنئي، والشيرازي، وفضل الله، والخوئي، وميرزا.

وأكد أن «رموز المذاهب الإسلامية ساهموا في تعضيد مفهوم الأخلاق، وشددوا على حتمية التعايش، ليس من خلال قبول الآخر فحسب، بل التعدي إلى مستوى التمازج الخالق لذلك الموزاييك المذهبي الإسلامي الصحي الجميل». ويضيف: «الوجه الاجتماعي والثقافي الذي أنجبه التعايش المذهبي في الأحساء في عهده الذهبي أولد بيئة اجتماعية ذات خصائص متعددة».

وقال الدكتور اللويمي: «من تلك الخصائص شيوع السلم الاجتماعي بين أتباع المذاهب المتعددة، وسقوط الحواجز النفسية بين أتباع تلك المذاهب، وتداخلها حد التزاوج، واشتغال الرموز الدينية بالدوائر الداخلية للمذهب، من خلال التركيز على تهذيب وتشذيب قضاياه المعنية بالتهذيب الأخلاقي والتربوي أكثر بكثير من الفوارق مع المذاهب الأخرى».

تأثير طابع الواحة

وصف الباحث المهندس عبدالله الشايب الأحساء بمنطقة الاستقرار، معللاً ذلك بالقول: «هذا يرجع إلى طابع الواحة، فالأحساء ذات طابع وعمق تاريخي لميزة الاستقرار فيها». وأضاف: «وقوعها الاستراتيجي قديماً وحديثاً على طريق التوابل، طريق التبادل التجاري والثقافي، رسخ قاعدة قدرة الإنسان فيها على التعامل مع الآخرين بما يعرف بالسلم الأهلي الفطري، لذا أطلق على سكان الأحساء «الطيبين»، حتى أصبحوا سفراء خارج واحتهم، فهم يمتلكون سياسة الحوار القوي المبني على نبذ الطائفية والتعصب».

وقال مدير مركز التنمية الأسرية في الأحساء الدكتور خالد الحليبي: «قمت بدراسة عميقة في مرحلة الماجستير للمجتمع الأحسائي، ولم أجد أية حادثة أثرت في العلاقة الاجتماعية، ويمكن أن نؤكد بكل وضوح علمي أن المجتمع الأحسائي يمثل أنموذجاً للتعايش المذهبي الذي دام قروناً».

وأضاف: «من ثمرات هذا التعايش، نجد أن هناك شركات تجارية وعلمية وأدبية أيضاً، إلى جانب المجالس الأدبية، تستقبل جميع الأطياف. ويجمع الحي الواحد أيضاً الكثير من هذا التنوع تحت شعار الاحترام المتبادل بين جميع الأطراف». وزاد: «يسعى الطرفان في الأحساء إلى الحوار الهادئ البعيد عن التعصب والتطرف والتشنج، وهذه مبادئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز التي رسخت للحوار ودعت إليه. وعلى سبيل المثال نجد ثمار هذا الحوار التغير الملحوظ في المشهد الثقافي».

وأوضح الدكتور الحليمي أنه «في خضم الأحداث الجارية في المنطقة العربية، والخليجية خصوصاً، تظهر على الساحة الصراعات الطائفية متوارية وصريحة، وأعداء الإسلام يتمنون أن يوجدوا هذا الاختلاف، فهو فرصة ومدخل لإيجاد نزاع يتعدى الصراع الفكري والعقدي، ليصل إلى التصادم الدموي، وقد تدفع الطوائف الإسلامية الثمن في مواجهة هذا المخطط الكبير».

وأشاد المهندس الشايب بفكرة إقامة مركز حوار المذاهب الإسلامية الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين، مشيراً إلى أنها «خطوة رائدة ومؤثرة، وأنا أرى أن الأحساء تستطيع أن تحتضن هذا المركز أو فرعاً له، كونها أنموذجاً للحوار والتعايش المذهبي، ففيها خمسة مذاهب وستة مراجع دينية»، مضيفاً: «موضوع التعايش مرتبط بالعلاقات، فلا وجود للانفصال الاقتصادي والعلمي والثقافي، وهذا المركز يجب أن يكون مثالاً للسلم الأهلي والتعايش والحوار الذي يمكن للفهم المشترك، وتكون فيه معرفة بخصوصيات المذاهب، وأن يتبنى الحوار البعد الآخر داخل المذهب لتصحيح ما يمكن تصحيحه، ففي المملكة ووفق علمي ثمانية مذاهب، ما سيجعل المركز مؤثراً جداً».

ويشكل النسيج الممتزج للطوائف في الأحساء المكون الرئيس لقراها ومدنها، ويندر أن توجد مدينة أو قرية ذات اتجاه مذهبي واحد، إذ يمثل التنوع السمة الأكبر. ويعزو كثير من الباحثين والدارسين احتضان هذه البيئة لكل هذه الأطياف إلى العمق التاريخي، إذ عرف عن أهالي الأحساء دخولهم الإسلام طواعية غير مكرهين، ووقوفهم الشجاع مع المؤسس الملك عبدالعزيز في وجه الجيش العثماني وفي الحروب المختلفة من جهة، ومن جهة أخرى إلى الموقع الاستراتيجي والتكوين الاجتماعي والثقافي للسكان.

المصدر: جريدة الحياة