الطهطاوي مجددا في باريس

أخبار

بعد نفاد الطبعة الأولى من الترجمة الفرنسية التي وضعها أنور لوقا عام 1957 لكتاب الطهطاوي الشهير “ذهب باريس”، أصدرت دار “أكت سود” (سلسلة سندباد) الباريسية الطبعة الثانية من الترجمة. وكان متوقّعا إعادة نشر هذا العمل الفريد من نوعه والذي شكل اللبنة الأولى في صرح الحداثة العربية، والصاعق الذي أطلق تيار النهضة.

في عام ١٨٢٦ وصل رفاعة رافع الطهطاوي مع 44 طالبا ضمن البعثة الدراسية التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا. ومع أنه رافق هذه البعثة بصفة إمام وليس بصفة طالب، لكن فضوله الكبير وانفتاحه المذهل على شتى ميادين المعرفة جعلا منه الشخصية الأهم في عدادها.

الطهطاوي عاش تجربته الباريسية كمهمة تاريخية وقعت على كاهله في فترة لم يعد ممكنا فيها تجنّب العلاقات بالآخر

مهمة تاريخية
فخلال السنوات الخمس التي أمضاها في باريس استثمر الطهطاوي كامل وقته في تعلّم اللغة الفرنسية أولاً، ثم في القراءة والترجمة وتأمّل محيطه. وفي هذا السياق التهم الكثير من كتب التاريخ والجغرافيا والرياضيات والهندسة والحقوق والإستراتيجية العسكرية، ونقل جزءا مهما منها إلى العربية، كما اطّلع على أبرز كتابات مفكري عصر الأنوار في أوروبا، وتحاور بشكل ثابت مع وجوه الاستشراق الفرنسي آنذاك مثل سلفستر دو ساسي، وكوسان دو برسوفال، وجوزيف رينو.

وبموازاة ذلك واظب الطهطاوي على تدوين مكتسباته العلمية وانطباعاته وتأملاته الناتجة عن نزهاته الطويلة في باريس في كتاب منحه عنوان “تخليص الإبريز في تلخيص باريس” أو”ذهب باريس”، الذي قدر له أن يلعب دورا رائدا في تنشيط الثقافة العربية الإسلامية، وفي إطلاق ورشة الإصلاحات التي شهدتها مصر خلال القرن التاسع عشر.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطهطاوي عاش تجربته الباريسية كمهمة تاريخية وقعت على كاهله في فترة لم يعد ممكنا فيها تجنّب العلاقات بالآخر، وهذا ما يفسر طبيعة الفصول الستة التي يتألف منها الكتاب والتي تُقرأ كأجوبة على التساؤلات التي تطرحها حضارة غريبة ومهيبة على المسافر في فضائها الجغرافي. فصولٌ تتجلى فيها تدريجيا محنة الهوية التي اختبرها الكاتب وعملية نضجه الفكري وحيوية اتصاله وتأقلمه في فرنسا.

وفي تصميمه للكتاب ارتكز الطهطاوي بشكلٍ كبير على كتاب جورج برنار ديبيغ “لمحة تاريخية عن عادات وتقاليد الأمم”، فطريقة تنظيم المعلومات التي جمعها في الفصول الثلاثة الأخيرة حول أنماط السكن والمأكل والملبس في فرنسا، مستوحاة من الفصول الثلاثة الأولى من كتاب ديبيغ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الملاحظات التي دوّنها حول مواضيع المرأة والتجارة والرقص والحفلات الفنية، بعدما استوحى عناوينها من الكتاب المذكور.

ورغم تراكم المعطيات العملية في نصّه وتسجيله البارد لها وتقنينها، تبقى كتابته شخصية إلى حد كبير. وتحت تأثير قراءاته لن يلبث حسّه النقدي أن يحلّ تدريجيا مكان تأمّلاته واندهاشاته البريئة. ومع أن مقاربته لباريس تمت دائما من زاوية مقارنتها بالعالم الإسلامي، فإن النظرة البانورامية التي تمكّن من تشكيلها لها، لا تبتعد كثيرا في جوهرها عن الصورة التي رسمها الشاعر “بول فاليري” لها كعاصمة سياسية وأدبية وعلمية وتجارية، يتركّز فيها تاريخ ومكتسبات الحضارة الغربية برمتها.

حتى في أسلوب كتابته لنصّه الشهير، أنجز الطهطاوي ثورة حقيقية، وسعى إلى إيصال أفكاره بأكبر وضوح ممكن

قيم الحداثة
وفي معرض بحثه المنهجي عن القيَم الطاغية في هذه المدينة وفي الغرب عموما، توقف الطهطاوي خصوصا عند عقلانية الباريسيين التي استنتجها ليس فقط في شتى العلوم، بل في كل نواحي الحياة تقريبا. عقلانية لن تلبث أن تشكّل مصدر قلق لإمام شاب وجد نفسه فجأة في عقر دار الفكر الوضعي، ولاحظ بسرعة أن المميزات التقليدية للحضارة الإسلامية لم تعد تؤمّن تفوّق الشعوب المسلمة على الشعوب الغربية التي أضحت تسبقها في كافة الميادين العلمية.

وهذا ما يفسر دعونه الملحة للمسلمين في كتابه إلى الإصلاح والنهوض من كبوتهم واللحاق بركب الحداثة، كما يفسر عدم إخفاء إعجابه بالتطور العلمي والتقني للفرنسيين، وبنظامهم السياسي الذي يوفّر لهم اليُسر والأمان، وبشرائعهم وقوانينهم التي تؤمّن لهم العدالة، مع العلم أنها غير مستقاة من أي كتاب مقدّس.

وفي المقابل، لم يتردّد الطهطاوي في انتقاد جامعة الأزهر التي تعلّم فيها فيُعبّر عن أسفه لغياب العلوم الدنيوية الضرورية عن برنامجها الدراسي، ويرفض اختصار المعرفة باللاهوت، وينقضّ على المنهج التربوي لتعليم اللغة العربية فيها، حيث يضيع الطالب في تفسيراتٍ وشروحٍ لا نهاية لها، بينما المطلوب في نظره هو تحديث هذه اللغة كي تصبح أداةً دقيقة قادرة على التعبير عن الأفكار والعلوم المعاصرة.

وحتى في أسلوب كتابته لنصّه الشهير، أنجز الطهطاوي ثورة حقيقية، إذ رغم افتقاد اللغة العربية في بداية القرن التاسع عشر للعبارات والعناصر الضرورية لخطاب علمي حديث، سعى هذا الكاتب الشاب في حينه إلى إيصال أفكاره بأكبر وضوح ممكن، وإن قاده ذلك أحيانا إلى الإسهاب في التفسير وإلى جمل غير صحيحة نحويا.

وفي سعيه هذا، سجّل قطيعة مع النثر الموزون والمقفّى الذي كان يدفع بجميع الكتّاب العرب آنذاك إلى السعي خلف تناغمات صوتية وشكلية فارغة على حساب المعنى المقصود.

المصدر: الجزيرة