الفجوة الرقمية في اللغات تهمش مجتمعات وتعزز أخرى

أخبار

يتصور كثيرون شبكة الإنترنت كونها حدوداً مفتوحة، حيث يمكن الوصول إلى المعلومات بسهولة عبر النقر على لوحة المفاتيح، لكن إذا تخيلتم الإنترنت على هذا النحو، فإنكم تنظرون بسذاجة وغطرسة من يتحدث اللغة الإنجليزية، وذلك بحسب ما أفادته الكاتبة هولي يونغ في تقرير أعدته عن «الفجوة اللغوية الرقمية». وكانت الإنجليزية أول لغة مستخدمة على الإنترنت، وشكلت نحو 80% من محتوى الشبكة بنهاية التسعينيات، لكن الإنجليزية غدت الآن مجرد لغة بين نخبة من اللغات على الإنترنت.

ووفقاً لأحدث التقديرات، انكمشت حصتها النسبية في الفضاء السيبراني إلى 25.3%، فيما صعدت إلى جانبها اللغات الصينية والإسبانية والعربية والبرتغالية والإندونيسية واليابانية والروسية والفرنسية والألمانية لتحتل أكبر عشر لغات على الإنترنت مشكلة 77% من إجمالي المحتوى. ومع ذلك، يقدر أن نسبة 4% من أصل نحو 6 آلاف لغة مستخدمة اليوم، ممثلة على الإنترنت، لكن هل هناك أهمية للغة التي نتحدث بها على الإنترنت؟

تشير يونغ إلى ما أظهرته الأبحاث عن التأثيرات العميقة للغة على تجربة الإنترنت، فاللغة توجهنا إلى الشخص الذي نتحدث معه على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف نتصرف داخل المجتمعات الرقمية، عدا عن تحديد كمية المعلومات التي يمكننا الوصول إليها على «ويكبيديا».

وتشير يونغ إلى أن البحث على محرك غوغل عن كلمة «مقاه» بلغة معينة يمكنه استرجاع نتائج بتلك اللغة 10 مرات أكثر من البحث عن العبارة نفسها بلغة أخرى، وأن اللغة المهددة بالانقراض قد لا يكون لها حياة على الإنترنت أصلاً، وأن الإنترنت بعيداً عن أن تكون لانهائية، هي واسعة قدر اتساع اللغة نفسها.

اللغة والمجتمعات

تعد اللغة مهمة في بناء العلاقات البشرية على الإنترنت بقدر أهميتها خارجها، فهي تشكل، وفقاً ليونغ، أساس الطريقة التي يتعرف فيها مستخدمو الإنترنت على بعضهم بعضاً، والخطوط التي يجري بناء عليها استبعاد الأشخاص أو دمجهم، كما الحدود التي ضمنها تنمو المجتمعات حول مصالح مشتركة،

«فالشبكة لا تربط الآلات فحسب، وإنما الناس أيضاً» يقول الباحث تيم برنرز-لي، وعلى موقع «تويتر»، حيث الإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشاراً، فإن ما يقرب من 49% من التغريدات كانت بلغات أخرى عام 2014، كما أن تحليلاً لسلوك المستخدمين أظهر أن مستخدمي موقع «تويتر» يميلون لحصر تتبعهم وتغريداتهم وإعادة نشر تغريداتهم بأولئك الذين يتحدثون اللغة نفسها.

بالتالي، تفيد يونغ، فيما يعتبر «تويتر» نظرياً منصة عالمية للتحادث، فإن التفاعلات داخله محصورة في الغالب لغوياً، كما أنه من المرجح أن يعبر مستخدمو «تويتر» بلغات مختلفة عن سلوكيات مختلفة، فالكوريون يميلون لاستخدام تويتر للرد على بعضهم بعضاً، فيما المتحدثون بالألمانية يفضلونه لتقاسم العناوين والهاشتاغ، وإذا كان المرء يغرد بالإندونيسية فإنه يعيد نشر التغريدة خمس مرات تقريباً أكثر من باليابانية.

عدم المساواة في المعلومات

وعلى صعيد التنوع اللغوي، وفيما يضع موقع «غوغل» زيادة عدد اللغات بين أهدافه الرئيسية، فإن هناك تحديات جمة بشأن شمول اللغات، لا سيما عندما يبقى العديد منها في شكله الشفوي فحسب، ومن أصل نحو 6000 لغة مستخدمة اليوم، فإنه ما زال بإمكان محرك غوغل البحث في 348 لغة مختلفة فقط.

حتى تلك اللغات المعترف بها، لا تتمتع جميعها بالشعبية نفسها، تؤكد يونغ، لافتة إلى بحث أجراه الباحثان مارك غراهام وماثيو زوك على محرك بحث «غوغل» في الضفة الغربية في عام 2014، باللغات العبرية والعربية والإنجليزية، حيث كشفا عن عدم توازن مذهل بين المجتمعات اللغوية، إذ إن البحث بالعربية عن المناطق الفلسطينية يؤدي إلى ظهور نسبة 5%-15% من عدد النتائج الذي تظهره عبارة البحث نفسها باللغة العبرية، فيما محرك البحث بالإنجليزية يظهر مضاعف 4 إلى 5 مرات ما تظهره نتائج البحث باللغة العربية.

وعلى موقع «ويكبيديا»، يوجد عدم تناظر هائل في حجم المحتوى بطبعات اللغات المختلفة التي يبلغ عددها 290،ويبدو عالم المعلومات على الإنترنت مختلفاً جداً من لغة إلى أخرى، تؤكد يونغ، مقتبسة جملة للفيلسوف لودفيغ ويتغنستين: «حدود لغتي على الإنترنت يعني حدود عالمي».

ويرى غراهام في مؤسسة «أكسفورد إنترنت» أن الدول الغنية تعمل على تعريف نفسها، فيما الدول الأفقر يجري تعريفها من قبل الآخرين على نطاق واسع، فيما عدم المساواة في المعلومات بإمكانه تعزيز أنماط من إنتاج المعلومات الخاصة بحقبة الاستعمار. وتظهر سيادة الإنجليزية تليها الفرنسية بشكل كبير في معظم أرجاء أفريقيا وآسيا وأجزاء من أوروبا الشرقية.

ويمكن أن يؤثر عدم المساواة في المعلومات وتمثيل اللغات على الإنترنت في كيفية فهمنا للأماكن وتصرفنا فيها، ففي الدراسة التي أجراها غراهام وزوك عن الضفة الغربية، تبين أن البحث عن «مقهى» بالعبرية والعربية والإنجليزية على محرك غوغل يأتي بنتائج مختلفة في كل لغة، مع توجيه «غوغل» المتحدثين بلغة إلى جزء من المدينة والمتحدثين بلغة أخرى إلى جزء آخر.

ويقول غراهام إنه ينبغي أن تثير الدراسة أسئلة بشأن المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية السياسية للشركة، وأنه «لا يكفي أن ترفع مسؤوليتها عن هذا الفصل الاجتماعي في المدن، عندما تُسأل لماذا يجري تناقل البيانات وتمثيلها بطرق معينة، فسواء أعجبها الأمر أم لا، فإنها تشكل الطريقة التي يتفاعل ملايين الناس مع مدنهم».

سد الفجوة

وتوفر تكنولوجيا الترجمة أحد حلول سد الفجوة اللغوية على الإنترنت. ويقول سكوت هايل، عالم البيانات في مؤسسة «أكسفورد إنترنت»، إنه يمكن القيام بالمزيد لإطلاق العنان لقوة تعدد اللغات.

يمكن تعديل منصات الإنترنت لتسهل على المستخدمين متعددي اللغات إيجاد المحتوى بلغات أخرى، كما تشجيعهم للمساهمة في أكثر من لغة واحدة، وكان قد وجد في أبحاثه أن الناس متعددي اللغات على «تويتر»، و «ويكيبيديا»، هم الأكثر نشاطاً، وسواء أكانوا يقومون بالترجمة، أو يستقدمون مفاهيم أجنبية إلى طبعات لغات مختلفة على ويكبيديا، أو ينقلون قصص إخبارية إلى مجتمعات بلغات جديدة، فإن لهؤلاء القوة في أن يكونوا مؤثرين.

لكن أياً من اللغات باق على الإنترنت؟ وفقاً للباحث أندراس كورناي في ورقة بعنوان «وفاة اللغات الرقمية»، فإنه لن تحصل 95% من كل اللغات المستخدمة اليوم على اعتراف على الإنترنت، فهل ستكون الإنترنت محفزاً لانقراض العديد من لغات العالم؟ تشير يونغ إلى استمرار وصول مستخدمين للإنترنت من العالم النامي، وترى من المنطقي افتراض الطعن بنخبوية بعض اللغات.

ويوفر الوصول إلى الإنترنت أيضاً فرصة للتمكين اللغوي حسبما تفيد يونغ: لتوثيق اللغات والحفاظ عليها ومشاركة مواد التعليم لتشجيع متحدثين جدد، وترجمة معلومات هامة للجماعات المهمشة، وحتى خلق مجتمعات افتراضية. وترى أن الإنترنت يمكن أيضاً أن تكون مكاناً ليس لتطور اللغات فحسب، وإنما لاختراعها أو لتجد حياة ثانية، حيث يعمل مشروع «مويسكوبن»، على توثيق لغة الموسيكا المنقرضة وسط كولومبيا.

لكن هل هناك خطر بأن يتخلى المستخدمون الجدد المتأثرون بحجم محتوى اللغات السائدة عن لغتهم الأم على الإنترنت؟ تشير يونغ إلى الأبحاث القائلة إن المتحدثين باللغات الأقل انتشاراً على الإنترنت يختارون في الغالب استخدام الإنترنت باللغات الأكثر انتشاراً، حتى لو أنهم لا يتحدثون بها جيداً، وهو ما قد يؤدي إلى سيادة لغات مع انغلاق الفجوة الرقمية.

في عام 2011، أعلنت الأمم المتحدة بأن الوصول إلى الإنترنت حق إنساني أساسي. ومن الواضح، مع ذلك، أن الوصول وحده ليس كافياً لوضع الجميع على قدم المساواة. وفيما إغلاق الفجوة الرقمية لديه إمكانيات هائلة لتعزيز الأفراد، ترى يونغ أن المزاعم بأن الإنترنت ساحة عامة شاملة للجميع وعلى قدم المساواة فارغة من مضمونها.

«فرانكو أراب»

توشك لغة الفرانكو آراب على الاندثار، التي استخدمت للالتفاف على نقص بعض حروف اللغة العربية في جيل الهواتف المحمولة القديمة. ويقول خالد فهمي، أستاذ علم اللغة في جامعة المنوفية إن علماء اللسانيات يتفقون على أن أي لسان يظل في حالة أمان ما لم يتأثر نظامه التركيبي النحوي، ومن هنا فإن مزج الفرانكو آراب العربية بعبارات كاملة وأرقام تنتمي للنظام النحوي الإنجليزي يهدد اللغة العربية.

لغة الإنترنت انعكاس للغة الشباب وهي تسهل الاتصال السريع والعملي، باستخدام المفردات اللغوية والتعابير المقتضبة والرموز وصور «ايموجي» المعبرة، ولا تتطلب مراعاة القواعد والتراكيب والأخطاء الإملائية. وغالباً ما تكون لهجتها أكثر جرأة. كان للمراهقين دوما كلماتهم الخاصة، «كوول» و«ايس» و«غروفي» و«سيك» و«اميز»، مما يعني صعوبة فهمها، وتلك غايتهم!

الميل لتبسيط اللغة موجود منذ القدم قبل الإنترنت، لذلك فإن الشبكة ليست السبب بل الأداة. وهي أداة للاتصال السريع وقد اخترعنا الطريقة الأفضل لاستخدامها في الـ 60 عاماً منذ بدء تلك الحقبة. فإذا كان تبسيط اللغة على الإنترنت يمكنه مساعدتنا في تحقيق أهدافنا وتسريعها، فليكن!

يانينا دوبيكوفسكايا – المدير العام لقمة منتدى الاتصالات العالمية في دافوس

اللغة هي الوجود ذاته، وقد أصبح هذا الوجود مرتبطاً بثقل الوجود اللغوي على الشبكة العنكبوتية. ويتطلب استعمال اللغة العربية على الشبكة أدوات معلوماتية أساسية، وأهمها محركات البحث والمعاجم. فالفجوة الرقمية تعني الهُوّة الواسعة بين من يملك ومن لا يملك المعرفة.

أ.د/‏ إبراهيم صلاح الهدهد – عميد كلية اللغة العربية بالقاهرة

مفارقة لغوية

وفقاً لدراسة أجراها الاتحاد العالمي للاتصالات المتنقلة «جسما» فإن حوالي 320 مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء و120 مليون شخص في شمال أفريقيا المشمولين بالنطاق العريض للهاتف المتحرك لا يستخدمون الإنترنت، لـ «غياب محتوى محلي ذي صلة».

وعلى الرغم من أن العديد من الفقراء يمكنهم تحمل تكاليف هواتف ذكية ويعيشون في مناطق بتغطية بيانات الهاتف المتنقل، إلا أن المعلومات الخاصة مثلا بالإسعافات الأولية تكون غالباً بلغات أخرى.

المصدر: البيان