قصائد حملت أحزان البادية

أخبار

الدمام: ميرزا الخويلدي

يعد الشاعر والكاتب السعودي سليمان الفليح الذي توفي الأربعاء الماضي، واحدا من الشعراء الذين جمعوا بين تراث الصحراء واللغة الشعرية الحديثة، فكان يستقي معينه من تراث ضارب في البداوة، ولكنه يصيغ ألحانه بلغة شعرية حديثة.

في الشمال، حيث قلب البادية العربية ولد «الولد البدوي»، «طائر الشمال» سليمان الفليح بداية الخمسينات (1950)، وكانت ولادته تحت ظل شجرة، يعبر عنها بالقول: «وضعتني أمي تحت شجيرة في الصحراء ولفتني بطرف عباءتها ثم سارت تغني في ركب القبيلة الضاعنة نحو حدود الغيم». وقد لازمته هذه الصورة وظلت كامنة في أعماقه، رغم قساوة الحياة التي خاضها، ومرارة اليتم الذي لازمه منذ كان طفلا في الرابعة من عمره، فجاءت دواوينه الشعرية نازفة بنحو هذا الوجع، فكان ديوانه الشعري الأول: «الغناء في صحراء الألم – عام 1979»، وديوانه الثاني «أحزان البدو الرحل – 1981»، وبعده «ذئاب الليالي – 1992»، و«الرعاة على مشارف الفجر – 1996»، و«رسوم متحركة – 1996»، و«السيرة الذاتية لطائر الصحراء – 2008»، وآخر تلك الإصدارات «البرق فوق البردويل – 2009». وترك مجموعة من الكتب المخطوطة، بينها «الدراسات النقدية والأنثربولوجيا»، و«الأعراف والعادات، البدو»، و«دراسة عن حياة الصعاليك العرب» و«دراسات وترجمات».

وكان يقول: «في طفولتي عانيت الفقر والجوع والتشرد والارتحال في الصحاري. وعشت مع قبيلتي المتنقلة على الإبل، وقاسيت مرارة الحياة بشتى أصنافها».

في ديوانه «أحزان البدو الرحل»، يقول:

يعذبني أن غيما كثيفا إذا اعتم القلب و(اغتم)

يأتي بذهني كثيفا

كثيفا

بطيئا

ويحزنني أن رعدا يهز جبال العذاب بقلبي

عنيفا

عنيفا يجيء

ويقتلني إن برقا

يشع بصحراء روحي

ولكنه لا يضيء

ولا غرابة، إذن إن الفليح رغم أنه ابن القبيلة، وحارس تراثها، وخازن أساطيرها، لفت الانتباه إلى تجربته باعتباره يجمع أصالة اللغة، وحداثتها، وينظم المفردة بإيقاع موسيقي حداثي، تكتنز جزالة المعنى وعمق المشاعر.

ولذلك ترجمت معظم أعماله إلى اللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والروسية، وحظيت مجموعاته الشعرية ودواوينه بالكثير من الدراسات النقدية، وكتب عنه الكثير من النقاد والأدباء، بل إن مضارب البادية التي سكنها كانت «مضيفا» يقصده الكثير من الشعراء والأدباء العالميين لكي يتعرفوا على البيئة التي أبدع من خلالها الفليح وصاغ مفرداته الجميلة.

يتحدث عن الصحراء وما تركته من تأثير على خياله الشعري بالقول: «اختزنت ذاكرتي وأنا طفل بما تكتنزه الصحراء من أساطير ومفردات شعرية وحكايات شعبية والتاريخ الشفهي الكامل للقبائل وأخذ يتمخض شعرا».

ولم يمثل الفليح حالة شعرية حداثية فقط، بل حتى رؤيته لـ«القبيلة» التي احتضنته ستة عقود من حياته، وكونت ذاكرته الأولى، كانت تتسم بقراءة حداثية، فهي في فكره لم تكن مجرد بيئة حاضنة، بل أبعد مما يحتمله ظاهر المعنى. يقول: «القبيلة أستخدمها كرمز أسقطه على الأمة. فهي تأتي في محل (الأمة) لأسقط عليها عتبي وآمالي فيها، وهذا ما أعنيه بمفردة القبيلة».

ورغم نشأته في البادية، فهو لم يتجه كثيرا للشعر التقليدي، النبطي، الذي تعرف به الصحراء، ويبدع فيها شعراؤها وأبناؤها، بل كان مشدودا إلى القصيدة الحديثة، وهو يقول: «أنا أكتب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، التي أعدها موسيقى ساكنة لا يستوعبها إلا من لديه الشفافية القصوى».

وعلى هذا الأساس، كانت نظرته للشعر عموما، فـ«الشعر لن ينتهي ما دام في الكون موسيقى، وما دام في الكون أصوات رياح وأعاصير ورعود، وأصوات غناء. وإذا تخلت الشعوب عن الأغنية والنشيد فستتخلى عن الشعر. فالشعر هو التعبير عن مشاعر الشعوب».

وكانت حياة الفليح مليئة بالنشاط الصحافي والكتابة، رغم أنه لم يحصل على قسط وافر من الدراسة، وهو يقول عن ذلك: «إن حرماني من الدراسة بسبب الفقر واليتم والجوع دفعني للبحث عن العمل مبكرا، فتوجهت إلى الكويت وعوضت ما فاتني من الدراسة بالنهل من مصادر الثقافة كالقراءة الجادة لكي أعوض ما فاتني». ويضيف: «وهذا التراكم الثقافي والمعرفي المشكل من كل الأطياف هو ما أفرز مني كاتبا وشاعرا».

كتب في الكثير من الصحف السعودية والخليجية والعربية، وفي السبعينات عمل جنديا في الجيش الكويتي وشارك في حرب الاستنزاف على الحدود المصرية – السورية في 1972، كما شارك في حرب الخليج عام 1990.

جاء رحيل سليمان الفليح، يوم الأربعاء الماضي (21 أغسطس/ آب 2013) في العاصمة الأردنية عمان، حيث أصيب بوعكة طارئة أثناء وجوده فيها، لكن حالته ساءت حتى توفي هناك. ودفن في المقبرة الهاشمية بالأردن.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط