محمد بن راشد يكتب: الخيل فخر العربي ورمز للقوة والشهامة

أخبار

«أنا مؤمن، بقوة، بعشقي للخيول، لدرجة أنني يمكن أن أقول إن الذين لا يدركون سبب اهتمامنا بالخيول لا يدرون ماذا نفعل. نريد أن نستعيد ريادتنا اقتصادياً وتقنياً وتميزاً فهل هذا كثير؟» بهذه الكلمات لخص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عشقه للخيل، في مقال كتبه عشية انطلاق كأس دبي العالمي للخيل في نسخته الحادية والعشرين اليوم.

تناول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، في مقاله بداية قصة عشق سموه للخيل، وما الذي تعنيه الخيل للعربي، وتحدث عن أول سباق خيل خاض غماره، وتنقل سموه في حبكة قصصية راوياً حكاية الخيول العربية الأصيلة، وكيف وضع نصب عينيه أن تشرق شمس سباقاتها مجدداً في منطقتنا العربية، بعد أن أصبحت دول الغرب حلبات لعدوها، وفيما يلي نص المقال: 

بواكير ما تجود به ذاكرتي منذ أيام الطفولة الأولى كان العدو في الصحراء ممتطياً صهوة جواد أغوص في سرجه أمام والدي الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. أتذكر تماماً إيقاع خطوات الفرس الأبيض «سغلاوي» الذي كان يعشقه والدي وأتذكر كيف ترتسم الرمال والسماء في خيالي مع إيقاع حركة خطوات الفرس الواسعة عبر كثبان الرمال.

«أنا مؤمن، بقوة، بعشقي للخيول، لدرجة أنني يمكن أن أقول إن الذين لا يدركون سبب اهتمامنا بالخيول لا يدرون ماذا نفعل. نريد أن نستعيد ريادتنا اقتصادياً وتقنياً وتميزاً فهل هذا كثير؟» بهذه الكلمات لخص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عشقه للخيل، في مقال لسموه كتبه عشية انطلاق كأس دبي العالمي للخيل في نسخته الحادية والعشرين.

تناول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، في مقاله بداية قصة عشق سموه للخيل، وما الذي تعنيه الخيل للعربي، وتحدث عن أول سباق خيل خاض غماره، وتنقل سموه في حبكة قصصية راوياً حكاية الخيول العربية الأصيلة، وكيف وضع نصب عينيه أن تشرق شمس سباقاتها مجدداً في منطقتنا العربية، بعد أن أصبحت دول الغرب حلبات لعدوها، وفيما يلي نص المقال:

لكن أكثر ما يلح في ذاكرتي يد والدي التي كانت تلف خصري والشعور بالفرح الغامر والسكينة في روحي. هذا هو أنا بل هؤلاء نحن. إننا شعب الخيول، تلك الخيول التي أعطت العالم الكثير عبر القرون منذ فجر التاريخ كوسيلة للتنقل ومعين في النشاط الزراعي وحراثة الحقول على سطح كوكب الأرض، ثم كوعاء حمل الرجال وأحلام الأمم في الحروب وأخيراً كرفيق لا يقدر بثمن وشريك في الرياضة… من هنا انطلقت الخيل من الجزيرة العربية، وبنفس القدر الذي ننتمي به أنا وشعب الإمارات إلى الخيل تنتمي الخيل لنا.

معقود بنواصيها الخير

إلى يوم القيامة

إنها الخيل التي ساعدت بني البشر في السفر وأنقذت حياتهم في الحروب، وتعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تفيد بأن الرجل يكون غنياً عندما يملك مهراً وبستان نخل، لقد كانت الخيل مطمح ملك الرجال، ومن يقرأ القرآن وأحاديث النبي وسيرته يسهل عليه فهم أهمية الخيل، إنها مختلفة عن كل الحيوانات، إنها مصدر بركة لصاحبها، وهي مصدر فخر لكل عربي ورمز للقوة والشهامة والسلطة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل» وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

نحن شعب ذو أنفة

وشعب الصحراء ذو أنفة وهو شعب محافظ، والتباهي بالمشاعر علناً ليس من شيمنا، لكن الإنسان بحاجة إلى شيء ما ليفضي بتلك المشاعر ومن الناحية العاطفية حظيت الحيوانات بالنصيب الأكبر من استعراض عواطفنا، التعبير عن حبنا للخيول والجمال تساوت مع حبنا للرجال والنساء، وكثيراً ما كنت أرى رجلاً أو امرأة يخفي جزعه لموت عزيز ومثل هذه القدرة على كظم المشاعر تكسر القلب لكنها في الوقت نفسه أسلوب للتعبير عن التسليم بقضاء الله، ونفس هذه القدرة على كتم المشاعر كانت تفيض دمعاً مدراراً على موت حصان أو جمل ووراء تلك الدموع التي تنهمر بسهولة حزناً على الفقيد، يختفي شعور بالحزن وبكل المشاعر التي كظمها حزناً على من فقد ولم يستطع أن يبكي عليه.

البدو عشاق الطبيعة

لا يخفى في ثقافة البدو ذلك العشق الظاهر للطبيعة، فالرجال يرقصون طرباً ويتمايلون على المعزوفات الموسيقية بينما يتمايل الجمل عبر رمال الصحراء، تغمرهم مشاعر الفخار التي تتجاوز بكل قواعد المنطق حجم ذلك الحيوان الضخم. أما النسوة اللاتي يرقصن ويهززن خصائل شعرهن يميناً ويساراً فهن يقلدن حركات رأس المهر بشعره الأسود الذي يمكن أن يغطي عينيه السوداوين الكبيرتين حيث تظلل الغرة جبين المهر الواسع. لا يمكن لأي نمط من الحياة أن يمنح الإنسان هذا الطوفان من الجمال. ربما يكون هذا أهم مبادئ الاختلاف في الثقافات بين الشرق والغرب… وإننا ندرك واحداً من عناصر جمالها الطبيعي لكننا لانزال نقر بسطوتها ونحاول تقليد الطبيعة بدلاً من إبداع ما يمكن للإنسان إبداعه واليقين به. الإنسان قد يكذب لكن أن يصدق كذبته فتلك خطيئة تدل على أعلى درجات الغباء.

الفرس هو الجمال المطلق

وبالنسبة لي وللكثير ممن أعرفهم الفرس هو الأكثر جمالاً بل هو الجمال المطلق، فالفرس الذي تبدو أوتاره كخيوط القوس وعضلاته المستديرة الناعمة الملمس في يدي يجعلني أتعجب بالقوة التي يمتلكها. أما منحنيات كتفيه التي تلتقي عند صدره الناعم والمبدع تعلوه صدارة تتوزع بين خصلات شعر متجدلة فكلها تميزه عن الجمل الذي لا أقول طائشاً بل حنوناً وحكيماً بقدر ما هو متسامح وخشن.

اختيار المرء واختيار الحياة

أحياناً يختار المرء ما يريد في حياته وأحياناً ربما يتساهل لأن ما يريده قد يكون نزوة. لكن عندما تختار الحياة ما تريد من الإنسان تتحول إلى قوة طاغية. تلك هي حال العرب مع الخيل. فالتاريخ العربي غني ومليء بالتجارب هكذا بدأ ولن ينتهي ربما لأنه بدأ مع فجر التاريخ، والخط الذي اخترت أن أتبعه مغزول في حياتي، إنه الجزء من حياتي الذي منحها معناها، لقد نجح البدو مربو الخيول في الحفاظ على دم سلالة صحرائهم غاية في النقاء واحتلت المهر مكانة خاصة في حيازة البدوي. واقتضت طبيعة الصحراء القاسية أن يكون البقاء للأقوى والأكثر لياقة، وهذا ما جعل الفرس العربية تمتلك مواصفات خاصة. ومع مرور الزمن وتحرك كثبان الرمال في الصحراء وتهادي أغصان النخيل بفعل الرياح لم يتغير العرب بل حافظوا على أصالتهم لقرون طويلة.

صحبة قائمة منذ 3000 قبل الميلاد

ويتحدث البدو جهاراً عن صحبتهم مع الخيل العربي الذي يعود تاريخه إلى 3000 عام قبل الميلاد. عندما قدم «باكس» أحد أحفاد نوح عليه السلام ليأخذ فرساً يدعى «هوشابا» ومهرة تدعى«باز» من بدو الربع الخالي.

والشعر والفروسية والشهامة والكرم والشموخ كلها قيم أصيلة عند الفرسان العرب لكن الماضي هو الماضي. وعندما اختفى الفارس العربي بقي حصانه ولم يختفِ… ولبرهة تعرض الفرس لخطر الانقراض. وإذا تخلينا عن الاقتصاد والتقنية والريادة والخيول لغيرنا فما الذي بقي لنا.

أنا مؤمن بعشقي للخيل

أنا مؤمن بقوة بعشقي للخيول لدرجة أنني يمكن أن اقول إن الذين لا يدركون سبب اهتمامنا بالخيول لا يدرون ماذا نفعل. نريد أن نستعيد ريادتنا اقتصادياً وتقنياً وتميزاً فهل هذا كثير؟

سئلت كثيراً في حياتي ماذا يعني أن يكون عندي فرس عظيم وليس هناك إجابة سهلة تستطيع أن تعبر عن السعادة التي يشعر بها العربي والمسلم عندما يملك هذا الحيوان. ولعل أقرب ما يمكن أن يوضح الصورة هذه الحكاية… في قديم الزمان كانت هناك قبيلتان عربيتان «عبس» و«ظبيان». وكان زعيم قبيلة عبس يملك فرساً مشهورة في الجزيرة العربية بسرعتها الفائقة كان اسمها «داحس». وفي الطرف الآخر من القصة فرس لا تقل شهرة يملكها زعيم قبيلة ظبيان اسمها «الغبراء». وكانت القبيلتان تختلفان دائما حول أي الفرسين أسرع.

ولم يكن العرب ينظرون إلى فرسهم كسلاح لا غنى عنه بل كمصدر عز وفخار. ولن تملك فرساً من سلالة سريعة إلا إذا كان ربك راضياً عنك. وقد يخلد ذكرك في الروايات والأشعار إذا كنت تملك ذلك المخلوق العجيب. وقد ترفع فرس عظيمة فقيراً معدماً إلى مصاف الملوك وقد تكون مغواراً شريف النفس لكن فرسك هي الرمز الأساسي لمجدك وعظمتك.

وفي يوم السباق الموعود ساورت زعيم قبيلة ظبيان مخاوف من أن تخسر فرسه «الغبراء» السباق، ولم يكن يحتمل أن يشاع ذلك الخبر في العرب. ولذلك قرر أن يكلف رجلين من رجاله بعرقلة «داحس».

وأعطاهم تعليمات بأن لا يقوموا بأي حركة في حال كانت «الغبراء» في المقدمة، وأن يتحركوا فقط إن اتضح أن «داحس» سيكسب السباق. 

بدأ السباق وانطلقت الغبراء كالسهم في المقدمة وكانت جميع القبائل مجتمعة في حلبة السباق وكانوا يتابعون بتلهف مسار الخيول، وتبعاً للخطة المرسومة عندما اقترب المهران من الشجيرات التي كان يتخفى وراءها الشابان من «ظبيان»، حيث قفزا من وراء الشجرة ولوحا بأيديهما ما أصاب «داحس» بالخوف فغيرت مسارها، وفي الوقت الذي كانت تحاول فيه التوازن وإعادة التحكم بمسارها كانت الغبراء قد أصبحت في المقدمة وربحت السباق.

وغضب زعيم بني عبس غضباً شديداً لما حدث، وشعر بأن قبيلة ظبيان كانت وراء الحادث وإن لم تكن هي فإنها قبيلة تغلب التي كانت في تحالف معهم، وهكذا بدأت الحرب الدامية والتي تعرف بداحس والغبراء والتي كانت من أشرس الحروب.

قال المؤرخون إن كفة المعارك كانت تميل من طرف لآخر لمدة أربعين عاماً إلى أن تدخل زعماء القبائل الأخرى وكتب الشعراء الكثير من القصائد التي تدعو إلى التوقف عن القتال.

خلال الأربعين عاماً التي دامت فيها الحرب وبعد أن فقد الآلاف فيها أرواحهم كان الجميع يدرك أن السبب وراء اندلاعها هو دفاع كل من القبليتين عن شرف خيولها، وهذا يظهر بشكل جلي القيمة والحب الذي كان لدى العرب تجاه الخيول منذ قديم الزمان، ويظهر المقاييس التي وضعت للدفاع عن الشرف.

لن يخوض العرب اليوم قتالاً لمدة أربعين عاماً من أجل الخيول ولكن حبهم وتقديرهم للخيول لم ينقص أبداً، ولايزال فحل الخيل الأصيل يحظى بتقدير كبير لدى العرب لأنه كان أباً للعديد من سلالات الخيل العربية الأصيلة.

وكان العرب البدو يقطعون مئات الكيلومترات في الصحراء مع خيولهم غير آبهين بخطر الموت من الجوع أو العطش وذلك كله من أجل تلقيحها من فحل أصيل، ولاتزال المهرة الأصيلة تحظى باهتمام كبير من جانب العرب وذلك لأنها أساس السلالات من الخيول العربية الأصيلة حيث يمكن للأم أن تلد جوهرة أصيلة بينما يمكن للفحل الأصيل أن يحسن نوعية نسل المهرة أثناء عملية التناسل.

فرسان ممتطون خيولاً

عندما أتخيل الفرسان والزعماء العرب أتخيلهم ممتطين خيولهم وقائدين للجيوش في جميع أنحاء العالم ويكتبون قصائد شعرية تتحدث عن أفكار وقيم رائعة، ولكن تلك الأيام البطولية والمجيدة قد انتهت الآن، ولم تعد الخيول العربية تحمل زعماء وفرساناً عظاماً، وعندما غابت شمس البطولات العربية المجيدة ومهارتهم على الخيول، أشرقت الشمس على الغرب وخيولهم ذات الأصول العربية فمن المعروف للجميع أن كل سلالات الخيل الموجودة في انجلترا هي عربية الأصل، حيث تعتبر الخيول العربية السلالة الأقدم للخيول في العالم.

وكانت تتم عملية التناسل إما من خلال الاستيراد المباشر للخيول أو من خلال سلالات ثلاثة من اشهر الفحول العربية الأصل وهي «بيرلي ترك» و «جودولفين بارب» وهو الاسم الذي يشير إلى فرس من أصل مغربي، ولدت من الخيول العربية التي كانت بحوزة العرب عند فتحهم للأندلس وأيضاً يعرف هذا الفحل ب«آراب جودولفين»، أما النوع الثالث فهو «ديرلي أريبيان».

وحتى في معركة «ووترلو» الشهيرة التي هزم فيها دوق ويلينغتون القائد الفرنسي نابليون بونابرت، لا يعرف الكثيرون أن رمزاً عربياً كان حاضراً هناك في ساحات المعركة، حيث إن نابليون بونابرت كان يمتطي الحصان العربي الأصيل ذا اللون الأبيض «مارينغو» في حين كان دوق ويلينغتون يمتطي الحصان «كوبنهاغن» الذي ينتمي لسلالة الفحل العربي «ديرلي أريبيان».

وبحسب جدي الشيخ سعيد وأبي الشيخ راشد فإن الحصان جودولفين يعود أصله إلى أكثر من 200 عام من الجزيرة العربية من منطقة الربع الخالي وتحديداً منطقة ليوا، ربما كان ذلك قبل نحو ربع قرن من مولدي ولكن قصص السباقات لاتزال موجودة وتروى على مر العصور ذلك لأن القصائد والقصص التاريخية ليس لها وقت أو زمان محدد.

لقد كنت أستمع إلى قصص الخيول العربية القديمة مثل جودولفين أريبيان وديرلي أريبيان وكنت أحلم بأنني ذات يوم سأربح سباقا عظيما للخيول وأجعل بذلك الفوز وطني وعائلتي فخورين.

زيارتي الأولى لإنجلترا

لقد أدركت خلال زيارتي الأولى لإنجلترا في العام 1959 عندما بدأ طموحي بإعادة رياضة الخيول ذات الأصول العربية إلى وطني يكبر، وبأن أضع خريطة الشرق الأوسط على خريطة السباقات العالمية من خلال إعادة السباقات لمنطقتنا ثانية.

كنت صبياً وكان والدي الشيخ راشد قد اصطحبني معه صيفاً إلى بريطانيا. كان هناك في زيارة رسمية وذهب بداية لتسهيل انشاء مهبط للطائرات في دبي.

كان والدي يريد أن ينشئ مهبطاً للطائرات في الصبخة، موقع المطار الحالي، لأن الطائرات التي كانت تهبط في دبي كانت تهبط في منطقة الخور. ورفض الانجليز طلب والدي بحجة أن هناك مطاراً في الشارقة حيث كانت القاعدة البريطانية آنذاك، ولذلك دبي ليست بحاجة إلى مطار، ولكن والدي أصر على الأمر قائلاً إنه هو أفضل من يعرف ماذا تريد دبي وأصر على طلبه وقد حصلنا على موافقة بإنشاء مهبط للطائرات خلال تلك الزيارة وقد اصطحبني والدي ايضاً في جولة لرؤية بريطانيا وكانت أكثر الأماكن إثارة لإعجابي «نيو ماركت» وقد اطلعني والدي على تاريخ سباقات الخيل في بريطانيا.

ربما كان الرومان أول من أقام سباقات خيل منظمة هناك إلا أن أول سباق مسجل رسمي يعود لعام 1377 في «نيو ماركت» ومن ذلك الوقت صارت تعرف المدينة بأنها مقر سباقات الخيل الانجليزية ولعلها واحدة من أكثر الأماكن تأثيراً في رياضات سباق الخيل مثل «كنتاكي» والتي لا يضاهيها في الوقت الراهن إلا دبي.

وكان للملك تشارلز الثاني الفضل في انشاء نيو ماركت كعاصمة لسباقات الخيل وتكاثرها إلا أن الملكة «آن» عام 1711 هي التي أنشأت أكثر مضامير سباقات الخيل الإنجليزية شهرة «أسكوت» و«ويندسور».

ولعل الميزة الرئيسية التي نشأت عليها أنا وإخوتي هي حب الخيل، وهذا إرث بدوي وعربي حقيقي، لقد علمنا والدي أن نحب الخيول كما نحب أفراد أسرتنا، وعلمنا أنه ينبغي علينا أن نمارس ونشارك في هذا الفن الرياضي لعلمه بأنه رمز الفروسية، وأدار أخواي الشيخ مكتوم والشيخ حمدان حلبات سباق خيول من اسطبلات والدي، وهما فارسان مشهوران في الجزيرة العربية وقد تميزا بتدريبهما وبحيازتهما خيولاً مميزة وكان للشيخ مكتوم حصان مميز جداً يقفز راكباً عليه وهو يجري مسرعاً.

وكان هذا الحصان لا يقبل أن يمتطيه أحد سوى الشيخ مكتوم ورأيت عدة حوادث لهذا الحصان عندما يحاول أحد آخر ركوبه.

كان والدي يتحقق من أنهم بدأوا بمنافسة بعضهم بعضا، وبعد ذلك بدانا بمنافسة إسطبلات أخرى في الإمارات المجاورة. ولاحقاً أصبحنا ننافس الدول الخليجية الأخرى. وكوني الابن الثالث، كان ترتيبي الثالث في اختيار الخيول. لقد كان لدينا أفضل الخيول في جزيرة العرب، حيث كان هناك خيل رمادي يدعى «هدير» يمتلكه مكتوم، في حين أن حمدان كان يمتلك خيلاً آخر يدعى ب«كروان». كان لدى مكتوم فرس كستنائية اللون بنجمة تدعى «عودة»، وهي منحدرة من عائلة «ويدثن». كما كان مكتوم يمتلك «أبية»، المنحدرة من سلالة «أبيان».

سوداء أم حلق

كان عليّ أن ألقي نظرة على إسطبلات الخيول التي يمتلكها إخواني وأخواتي، حيث كانت هناك فرس جميلة مصابة، ولم يكن هناك أحد يريدها، كما لم يتم اختبارها في سباقات الخيل أبداً، ولكن بعد أن ألقيت نظرة عليها، ايقنت أنها تمتلك قدرة لتصبح فرساً منافسة في السباقات، وقد أسميتها «سوداء أم حلق». ومن المعتاد عند العرب أن يضعوا قلادة ذهبية أو فضية على أعناق خيولهم التي يحبونها، مثلما تتزين المرأة الجميلة بالعقد. وكان سرج الحصان الذي نسميه «معراجا»، والمصنوع من الصوف وورق الذهب، يستخدم لجعل الفرس تبدو جميلة.

علق قرط أذن «سوداء» بشيء ومزقته، ما أدى إلى انشقاق طرف أذنها اليمنى من أعلى حيث كان القرط معلقاً، ومن هنا أتى أسمها «سوداء أم حلق».

أول درس في علاج الخيول

في ذات يوم، أعلن والدي عن سباق تحضيري، يليه سباق حقيقي في جميرا بعد 4 أشهر، وحينها بدأت في التفكير بأمر الاشتراك جدياً، لذا سارعت في الذهاب إلى والدتي، طالباً منها المشورة والمال من أجل أن أذهب للسوق لشراء الأعشاب المطلوبة لأداوي بها فرسي المصابة. شرحت لأمي بتلهف عن الإصابات التي تعاني منها الفرس، وما كان من أمي إلا أن تهرع إلى الاسطبل وأنا وراءها أركض. انحنت والدتي أمام الفرس، وبدأت بمعاينة زوايا حوافرها ومفاصلها. نهضت أمي وقلت لها: «إنه وترها أمي، إنه كبير قدر رأسي، هذا ما علينا معالجته، لماذا تنظرين إلى المواضع الأخرى من جسدها؟».

ابتسمت أمي، وعلمتني في ذلك اليوم أول درس لي في العلاج، حيث أشارت إلى ساق الفرس وقالت: «من هنا يكمن ألم الفرس»، واستطردت بالقول إن الألم كان سببه إرهاق الفرس بالحمولة الزائدة أو بسبب تراكم مشاكل صغيرة وحدوث مشكلة أكبر لديها. 

شرحت لي والدتي أنه يترتب علينا أولاً تقليم حوافر الفرس، ومن ثم وصفت لي الأدوية وهي «العنزروت» و«الموميان» و«القومان»، ووضعت النقود في يدي، وقالت لي أن أذهب مع أحد الحراس إلى سوق الأعشاب. وقبل أن أخرج من باب المنزل، نادتني والدتي: «في طريق العودة للمنزل، زر بيت صديق أبيك واسأله عما يجب وضعه على وتر قدم الفرس ومفاصلها لتلتئم الإصابة، فمن الجيد أن نحصل على بعض الآراء يا بني».

رجل يغير أي جواد

وكنت أعرف أن الرجل الذي أشارت إليه كان مدرباً مدهشاً وكان بمقدوره تغيير أي جواد. وفي الأيام الأولى للقبائل المتصارعة تعين تعليم الخيل السقوط إلى الأرض وسط المعركة والتزام السكون لكي يستخدمها فرسانها كمسند للبنادق، وكان يحارب منطلقاً على جواده.

مضيت إلى الدار وناديت بصوت عال: «السلام عليكم» وانبعث العجوز واقفاً وقال: «عليكم السلام يا بني» وأشار لي بالجلوس وجلب لي القهوة والتمر اللذين قدمهما، فيما مضى يستفسر عن الأخبار وعن عائلتي وجيراننا. وسألني عما إذا كنت قد رأيت أياً من الطيور أو التقيت غرباء يحملون أخباراً من بعيد، جلست ومضيت أرد على أسئلته، وعندما انقضت المجاملات لزم الصمت وتطلع إلي متوقعاً ما سأقوله. فالتقط نفساً عميقاً وبدأت في القول: «سيدي، لقد حاربت مستخدماً الخيل من قبل، وانطلقت عليها قاطعاً مسافات طويلة، ولدي مهرة جريحة فما الذي يمكنني القيام به؟» وفيما وصفت له الجرح، استمع لي ونهض واقفاً وقال إنه لا بد أن يرى المهرة. 

تبعته عائداً إلى اسطبلاتنا، وأدهشني أن أمي لا بد أنها قد عرفت ما سيفعله لأنني عندما ركضت مسرعاً إلى الدار لإحضار القهوة والتمر وجدتها قد تركتهما لي خارجاً وقد غطتهما بقماشة، وعندما عدت كان لايزال عاكفاً على فحص قوائم الأمهار، ثم أوضح لي أن المرء لا بد أن يأخذ الحرمل والكركم وذرور الزعفران الهندي والسدر. ويتعين تجفيف الحرمل والسدر في الشمس، ثم سحقهما ليصبحا مسحوقاً ويخلط مسحوق الزعفران الهندي بالماء ويعطى للمهرة عن طريق الفم أو مخلوطاً بعلفها، حيث إنه يشفي من الالتهاب. ويتعين على المرء أن يأخذ الزعفران الهندي والسدر المسحوقين ويضعهما في وعاء ليتم خلطهما، ويضيف المرء إليهما الطحين لجعل الخليط يلتصق بالقائمة ويضيف المرء أيضاً الملح لإزالة الالتهاب، ويضيف زيت الزيتون مع قدر صغير من الماء الساخن، وتوضع هذه الكمادة على القائمة يومياً لعدة شهور وتزال في الصباح. وخلص إلى القول: «لا بد أن أمك قد أبلغتك بأن المهر بحاجة إلى استعادة التوازن؟» أومأت برأسي موافقاً على وجه السرعة ولذا ابتسم وقال: «إنني أعرف أنها ستأتي في المساء بعد الفراغ من مهامها وتوضح لك كيف تفعل هذا، فعليك بالانتباه لما تفعله والإصغاء بعناية لما تقول إنه يتعين القيام به، وتعلم كيفية تشذيب الحوافر، فما من أحد من العرب يعرف هذا خيراً منها. 

أسعدني ذلك وجعلني أشعر بالفخر لأن تلك المكونات هي على وجه الدقة ما كانت أمي قد طلبت مني شراءه، وغادرت مسرعاً إلى سوق الأعشاب المزدحم لجلب مشترياتي، وعندما عدت مضيت مباشرة إلى منطقة الطهي لإنجاز خليطي وحملته عائداً إلى الاسطبلات، وكنت في الاسطبل أضع الكمادة على قائمة المهرة عندما سمعت صراخاً وصياحاً من موضع الطهي وتناهى إلي صوت أمي، تأوهت عالياً فقد عرفت غريزياً أن أمي لا بد أنها قد رأت مطبخها بعد أن أعددت الدواء، وخلصت إلى أن من الخير لي البقاء في الاسطبلات بعض الوقت.

«أم حلق» تحت رعايتي

أنفقت المزيد والمزيد من الوقت في الاسطبلات، وغدوت أكثر جدية، وبصفة خاصة بعد أن أصبحت «أم حلق» تحت رعايتي، وقد عالجتها بالدواء دونما إهمال، وانحسر الورم في الأيام العشرة الأولى من إعطاء ذرور الزعفران الهندي «لأم حلق» عن طريق الفم. بدت القائمة أكثر نظافة أيضاً بالاستعانة بكمادة السدر، وكان الوتر لا يزال يبدو بشعاً، وواصلت وضع المسحوق عليه يومياً على امتداد ثلاثة أشهر، كما أنني لم أتوقف قط عن المضي بها ليس في مسيرة صعبة وإنما السير بها على امتداد ساعات. وكنت قد بدأت على مهل ولكن مع نهاية الأشهر الثلاثة انطلقنا بها خمس أو أربع مرات يومياً لمدد طويلة. وكان بمقدوري أن أرى أنها قد تحسنت حالتها كثيراً، وخمنت أن الوتر سوف يظل على الدوام بشعاً ولكن من الأفضل أن يكون الوتر البشع قوياً على أن يكون جميلاً وضعيفاً.

نصحني والدي بالبدء من خلال ركوب حصان طليعي معها، وقيادتها بما يسمى «الهيتشما» (الهيتشما ليست لجام بالمعنى الحرفي، ولكنها «هاكامور» فوق الأنف، وهي أقل من لجام، تتحكم بالحصان بالضغط على الأنف بدلاً من الجزء الحديدي في الفم). البحر كان قريباً إلى حد ما من المكان الذي عشنا فيه في زعبيل، ولذلك اعتدنا أن نغادر في الصباح والبقاء طوال اليوم على الشاطئ. كنت أضعها في مياه البحر لتسبح وأمسكها من عرفها عندما ترفع رأسها فوق الماء وأقوم بتمرينها على رمال الشاطئ البيضاء. كنا نتغدى سوياً، هي وأنا مع أصدقائنا. وكانت تضع أنفها في أعشاب وحشائش الصحراء التي أجمعها لها كل صباح وأجلبها معنا. كانت تمضغ أكلها وتحرك فكيها وتنظر نحو الأعلى من وقت لآخر كلما انتهت من كمية من طعامها، وتخفض رأسها مرة أخرى. أشارت دائماً إلى الساق المصابة أمامها كلما تناولت طعامها، مثل فيلٍ يرقص الباليه بعضلات مرنة!. 

وعندما يحين موعد الرحيل، أركب على الحصان الطليعي وأصفّر لها، وتقوم باللحاق بي وهي فرحة، حتى نصل إلى منطقة تتواجد فيها السيارات وأقوم بوضع «الهيتشما» مرة أخرى. وكان يبدو عليها الاستمتاع بالعودة إلى الاسطبلات في المساء كما استمتعت بأيامها خارج تلك الاسطبلات. تقف بهدوء وعيونها لامعة قليلاً ويبدو عليها النعاس بينما أنظفها من الرمال والملح، وتحرك احدى أذنيها لتلاحظ تغييراً في نبرة الصوت في ثرثرتي المتواصلة… أراحت ساقاً خلفية وأشارت إلى الساق المصابة في الأمام وكأنها تذكرني أن الوجع كان هناك. وعندما أنتهي من الكمادات والضمادات القماشية التي أحضرتها من عند والدتي، أقف هناك محاولاً عمل شيء آخر.. أي عذر لكي لا أغادر سحر الاسطبلات مساء ولكي أتجنب الذهاب إلى المدرسة في الصباح التالي.

رأى أبي هذه الأحصنة التي يتم إعدادها في الاسطبلات الآن. أعد الشيخ مكتوم الفرس «عودة» من «عائلة ويدثين»، كما كان الشيخ حمدان يعمل على إعداد «حمدانية». كنت سعيداً بفرسي «أم هلاغ» (Um Halag ) وصارت الكمادة التي كنت أضعها عليها ليلاً وكأنها فقاعة، وصار الوتر جيداً وقوياً. مشت أكثر من الحاجة ولكني لم أكن واثقاً من حالة الساق الآن. بدأت بجعلها تهرول وتتقدم بشكل تدريجي، حيث بدا مظهرها مثل فرس للسباق.

انتشرت أخبار التحدي في كل مكان، وجاء الكثير من البدو من كافة أنحاء الإمارات. وكان من عادات البدو أنه بعد الأخبار الطيبة أو مرحلة مزدهرة، يقوم كبير القوم أو الشيخ بتنظيم حدث مثل هذا الحدث. كما قلت سابقاً، كانت الحياة على درجة عالية من البساطة، وكان الالتقاء بين أعضاء المجتمع أمراً مستحباً ومرغوباً جداً وكذلك الاحتفالات للمجتمع كله. كان الالتقاء فرصة للشيخ للمشاركة في طعامه ومنح الجوائز للفائزين الذين قد يكونون بحاجة للمساعدة، وعمل ذلك من خلال مسابقة وتقدم تلك العطايا بلطف رائع لكي يشعر الذي يحصل عليها أنه اكتسبها، ولم تُعط له بدون تعب. كانت اللقاءات فرصة لتكوين التحالفات وتجديد الروابط التي قد تكون قد تحطمت، وإن كان هناك نزاع أو شعور سيئ بين الناس، فإنهم يحضرون برضاهم ويعملون على جسر الهوة، أو تتم دعوتهم كإشارة من الشيخ على أن النزاعات أو الإشكالات صارت شيئاً من الماضي.

لا حدود للبدوي

بالنسبة للبدو، ليس هناك حدود فاصلة: هناك مساحات شاسعة ومفتوحة. هذه هي الطريقة التي نرى فيها العالم. رأى جدودي كما رأيت أنا دائماً كيف رسم رجالٌ ليسوا أكبر أو أقل منا شأناً على الورق، وكلما كانوا أكثر تعقيداً، كلما كان الخط أقل وضوحاً. لم نر أبداً الحدود على أنها شيء يوقفنا عن رؤية أنفسنا كما هي، وقد نكون في بيتنا أو في مخيم في رحلة صيد، وعندما يأتي الضيوف نشعر بالالتزام بمشاركتهم فيما نملك. والمقاربة تصبح أكثر وضوحاً عندما نسافر، حيث نصبح مقدمين للسعادة ونكوّن مواقف نمنح من خلالها حتى آخر ما عندنا، إن كان ذلك طعاماً بينما يتضور أطفالنا جوعاً. نعمل ذلك من أجل زائر أو غريب لأنهم ضيوفنا. وكلما أظهرنا لهم ذلك وكلما قدمنا لهم المزيد، كلما كنا أفضل وأكثر صدقاً مع أنفسنا.

الضيافة جزء لا يتجزأ من ثقافتنا، وكما شعرت عائلتي وأهل دبي أنها كانت دعوتهم للجميع، يقوم كل منزل بإعداد الطعام لرجال ونساء القبائل من الزوار. ويتم طبخ الذبائح بهذه المناسبة. وقبل أسابيع من الحدث، تعد النساء العطور وتقوم بخلطها من أجل الضيوف بعد تناول الطعام، وكذلك البحث عما هو متوفر من «العود» أو البخور. أما «القصيد» (الشعر) فيعده الرجال ويتمرنون عليه وينقحونه على أفضل وجه في مجالس المساء لتتم قراءته أمام الشيخ الزائر. وقد يقوم الزوار بإرسال قصة حصان عظيم عندهم لم ينتصر عليه أي حصان آخر، ويتم تبادل رسائل النوايا الحسنة والأخوة شفهياً ما يعزز جو الإثارة القوي.

السباق الأول

طلب أبي آلة لتسوية قطعة من الأرض لمسافة كيلومترين على شاطئ جميرا، ونصب المتنافسون من الإمارات المجاورة خيامهم على الشاطئ ليكونوا هناك مع خيولهم. كانت نساء منطقة جميرا يحضرن الطعام للضيوف، وكُتبت الأشعار للشيوخ الزوار في أجواء احتفالية حيث رفرفت الأعلام في بداية ونهاية مسافة السباق. عملنا الكثير لتزيين المكان حسب إمكاناتنا المتواضعة، ولكن الناس هم من أثبتوا إمكاناتهم، وكانت أجواء التوقع رائعة للغاية. أجواء ما قبل السباق ستبقى في ذاكرتي لبقية حياتي، وآمل دائماً إعادتها في السنوات التالية في كأس دبي، من قناعتي التي وصلت لها في ذلك الوقت: من أجواء الضيافة وشعور الإثارة في الصحراء الهادئة، واحتفالاً بحيوان هو جزء جوهري من هويتنا. إنه جزء لا يتجزأ من الهوية العربية والحياة البدوية.

وصلت إلى هناك قبل أسبوع من السباق. مكتوم وحمدان، أخواي الأكبر مني سناً، أرسلاني لإقامة مخيم لثلاثتنا. ارتسم الامتعاض الواضح على وجهيهما عندما عرفا أنني نصبت خيامنا عند خط النهاية. كان لا بد أن نكون هناك في الصباح الباكر للاهتمام بخيولنا. في تلك الليلة، مشيت لمسافة كيلومترين مع فرسي ماسكاً بها بحبل، متحدثاً لها عن الحدث الكبير القادم. غداً ستكون فرصتنا لإثبات أنفسنا أمام أبي وجميع أصدقائه. لاحظت أن الأرض التي تمت تسويتها كانت جيدة، ولكن عند أطرافها، كانت عميقة وكأنها كثبان رملية صغيرة. لن تكون مغادرة منطقة الوسط في مصلحة المشارك بالتأكيد. 

وجاء صباح يوم السباق بعد ليلة لم يغمض لنا جفن خلالها مثل الليالي الأخرى وكانت مليئة بالأحلام والترقب. استيقظت وأبعدت النوم عن عيوني. ولكن عيوني لم تر بشكل واضح… الضباب في كل مكان على شاطئ جميرا. اجتمع الشيوخ والمتنافسون لاحتساء القهوة وتناول التمور ومناقشة الحالة الجوية. رفعت «الكندورة» القصيرة بسرعة، من رأسي، وتوضأت وأديت الصلاة، ثم أسرعت إلى فرسي. كان علي غسل الكمادة وإعطاء الفرس فطورها قبل أن أذهب وأستمع للأخبار. انتهيت مما كان علي عمله وذهبت لأجلس عند قدمي والدي، وقام أحد أصدقائه بإعطائي بعض الخبز والقهوة، بينما ابتدأ السباق! لم يكن الضباب خطراً كما قالوا، وكان بالإمكان الرؤية لمسافة خمسين متراً أمامك. كانت أعصابي متوترة ومعدتي تتشقلب! السباق بدأ!!

ذهبت لإحضار فرسي لأمشي بها قليلاً قبل السباق. بين فينة وأخرى، كانت تأخذ خطوة راقصة، ولكنها مشت بشكل معقول إلى جانبي. ارتجفت عضلاتها تحت الغطاء الأسود. قمت بتمشيط عرفها الطويل الأسود بالماء، وكانت أطراف حمراء لأن الشمس سفعتها. كانت الخيول الأخرى تمشي وبدا لي وكأنها تراقبها كما كنت أفعل. درّب الشيخ مكتوم «العودة» و«الودثن»، لكنه طلب من سلومة العامري ركوب فرسه. لطالما شارك في هذه السباقات ولكن التحدي كبير اليوم وقد اختار سلومة. كانت هناك مشاركات كثيرة، لكني كنت متأكداً أن علينا هزيمة «العودة». 

وأخيراً، طلبوا منا الركوب، وانطلقنا إلى نقطة البداية. وقف الشخص المسؤول عن اطلاق اشارة البداية حاملاً مسدسه فوق رأسه، و«كندورته» تتطاير في الهواء، بينما تربصت عيناي بإصبعه على زناده لأفهم حركة عضلات اصبعه التي ستُطلق اشارة البدء. تحدثت بكل لطف مع «أم هلاغ» (Um Halag ) وكدت أرى حركة أذنيها استجابةً لما أقول. اقتربت من عنقها الكبيرة تاركاً مسافة للحزام لكي لا أمسك بفمها عندما تتقدم نحو الأمام، وأدخلت أصابعي في عرفها الغزير، وفجأة، انطلق صوت في ضباب الصباح وسمعت هدير المشجعين على الشاطئ. انطلق السباق!

انحبست أنفاسي، وانطلقت «أم هلاغ» (Um Halag ) بقوة هائلة وعجيبة. مكنت جلوسي على ظهرها الزلق لأنني لم أستخدم السرج.. لم يكن هناك إلا«معراجة» اشتريتها لأظهر جمال فرسي. انطلقت جميع الخيول من حولي كأنها موجة عاتية، وانطلقت معها صرخات الفرسان والهتافات جاءت من كل حدب وصوب. وبعد حوالي 220 ياردة (ثمن ميل)، تثبتت وضعيتي ورأيت سلومة على ظهر «العودة» يختفي أمامي وكأنه شبح في الضباب. كان يبحث عن صدارة مبكرة ويستخدم الضباب كغطاء له. قررت أن لا أنتظر مع الآخرين وإنقاذ فرسي وأن أطارده. كان خبيراً كفايةً في الحد الذي بإمكانه دفع فرس الشيخ مكتوم، ولم أستطع أنا تركه بعيداً عن مدى نظري. وكزت فرسي بقدمي، وانطلقت نحو الأمام لتلحق به وكأنها في غاية السعادة بعد الوقت الذي قضته في النقاهة. شعرت بالفخر في داخلي، فما أحلى من أن تطلب من حصانك شيئاً يحققه لك بكل رضى؟

تفوق «العودة»

كان سلومة في الصدارة بفارق خمسة أطوال على ما أظن. وكما ساعده الضباب في صناعة الصدارة، ساعده الآن بالزحف ببطء خلفه دون تهديده على نحو كبير. من المؤكد أنه شعر بشيء من فرسه، مع صوت حوافر وهتافات المتفرجين التي صاحبها صوت أمواج البحر الذي كاد يطغى على أي صوت آخر. نظر خلفه ليراني على ظهر فرسي، وكان رأسها قريباً من خاصرة «العودة» وأنفاسها مسموعة من منخريها الكبيرين المُحمرين. كانت المفاجأة مرسومة على وجهه، بينما استطعت أن أخفي جلجلة ضحكتي بصعوبة بالغة تحت لساني.

كان يفضل وسط الحلبة على الجانب الأيمن منها، وكان بيني وبين الرمال العميقة مسافة حصانين. كنت أنتظر ظهور العلم من بين الضباب عندما رأيته يندفع. هل رآه قبلي؟ نظرت في حالة مرتبكة وحاولت فهم الأمر: لابد وأن يكون العلم قريباً الآن، ثم قام بحركته بعد أن رآني أحاول القدوم من الداخل وبدأ بالانحراف نحو الرمال العميقة. وفي لحظة، رأيت العلم أيضاً، ولم يكن هناك وقت للدوران حوله وكان لابد من الانطلاق نحو الأمام. طلبت من «أم هلاغ» (Um Halag ) كل ما عندها وأعطتني إياه بالفعل. تخبطت في الرمال العميقة وعوضت عن المسافة التي أخذها، وتسارعت خفقات قلبي عندما صرت بجانبه، ولكن «العودة» تفوق عند الرأس. وجاء بعدي الشيخ حمدان في المركز الثالث، ثم جاءت بقية الخيول في المراكز التالية. وكان «هدير» في المركز الرابع.

كان نصراً رائعاً لاسطبلات والدي! لم تهزم «العودة من الودثان» في ستة عشر سباقاً. حققنا الهيمنة على جدول النتائج. شعرت وكأني ملك عندما قدم إخواني التهنئة لي، وتفحص والدي وأصدقاؤه «أم هلاغ» (Um Halag) وأنا أُسيّرها. كنت ألمسها مهنئاً حتى بدأت أشعر بالوخز في يدي!

اقترب والدي مني مبتسماً، وقال: «أحسنت يا محمد. أحسنت». تمنيت لو استمرت تلك اللحظة للأبد!

حياة الصحراء

كان المساء رائعاً، وكانت الأجواء مفعمة بالطاقة والسعادة. ارتفع لهيب النار نحو السماء وشعر الرجال بسعادة غامرة وهم جالسون حولها. ورسمت الفتيات الصغار اللاتي ارتدين ملابسهن الملونة لوحات فنية متناسقة بحركات شعرهن على أنغام «الربابة». أعدت أمي أطيب المأكولات، وأنا كنت أتضور جوعاً!

وخلال الاحتفالات في تلك الليلة، جلست مع الشيخ مكتوم والشيخ حمدان بالقرب من النار. وكان لكل منهما موظفون وعدد من الخيول. قررنا أن الفرس أثبتت قدراتها بدون أدنى شك. وبالقرب من نار المخيم، تحدث الرجال عن التجربة وقالوا إنه لو لم أعلق في الرمال العميقة، لاستطاعت أن تهزم «العودة». كان كلامهم صحيحاً.. كلنا عرفنا ذلك. لم يلومني أحد، وكان الجميع يشعرون بالفخر بما حققته في أول سباق لي. شعرت ببعض الندم لأنني لم أعرف، لكن ذلك لم يؤثر على موجة الفخر التي شعرت بها في داخلي عندما أضاف الشيخ حمدان الفرس إلى مجموعة خيوله. من كان يظن أن أخي الأكبر مني سناً والذي أوقره، سيريد فرساً رعيته أنا؟ عقدت العزم على أن أقوم بإعداد المزيد من الخيول لتتسابق ضمن مجموعة خيول أخي. لقد أثبت نفسي.

وفي تلك الليلة بعد أن خلد إخواني للنوم، قمت وذهبت لرؤية فرسي. مدت أقدامها على الرمال ورفعت رأسها لتحييني بتحية هادئة عند اقترابي منها. وقفت أمامها وتفحصت شكل النجمة البيضاء التي توسعت لتصبح على شكل شريط رفيع على وجهها الأسود. مسحت بيدي على شعر جبهتها، وأحسست بتنهداتها العميقة. انحنيت لتقبيلها على أذنها المصابة وجلست مستنداً على بطنها لأخبرها أنها ستذهب إلى اسطبل حمدان الآن. هذه هي حياة الصحراء… الطاعة أهم من كل شيء. شرف كبير أن يختارها، ولكني شعرت بغصة في داخلي.

أكثر من مجرد حدث رياضي

شكرتها مرة تلو أخرى على كل ما عملته من أجلي. تحدثت لها عن عرفاني لمشاركتها لي في هذه التجربة لأن السباق كان أكثر من مجرد حدث رياضي. كان تدفقاً للحب والمودة نحو أبي وعائلتي من شعبي ومن القبائل والإمارات المجاورة. لم يكن هناك ما يهم أكثر من ذلك، وعرفت هناك على الشاطئ أن والدي سيحمد الله تعالى على نفس الدعم الشعبي الذي كان يتلقاه. وعرفت أيضًا أنه سيعتبرها إشارة على أنه يقوم بخدمة شعبه كواجب عليه، وعرفت أن ذلك سيدفعه إلى بذل المزيد من الجهد. «أم هلاغ»، (Um Halag)، أعز صديقة في العالم بالنسبة لي، ساعدتني في إبراز قدراتي أمامه وأمام أصدقائه وأن بإمكاني أن أتحمل أي مسؤوليات يريد مني القيام بها، ومن أجل ذلك، لن أستطيع أن أوفي لها حقها من الشكر في تلك الليلة. وأخيراً، خلدنا للنوم: نمت على بطنها، والابتسامة مرسومة على وجهي.

وفي اليوم التالي، انتظرت للخروج من الاسطبل بعد الآخرين بقليل. وصلت عندما عرفت أن أصدقاء أخي انتهوا من مساعدته في مهام الاسطبل، وأرحت «أم هلاغ»، (Um Halag) وقمت بتنظيفها بالفرشاة في ذلك الصباح حتى كادت تلمع من شدة نظافتها. وأعطيتها مزيجاً من الليمون المجفف والحنة مع زيت الزيتون لتشربه من أجل التخلص من وجع عضلاتها. تحسنت مشيتها، وتمشيت أنا كالطاووس في الأسطول نحو صندوقها بينما اصطف الأولاد على الطرفين لمشاهدتها. كان ذلك ربما بنفس حلاوة السباق نفسه.

تأكدت من أن الرمل كان نظيفًا وموضوع بشكل مناسب في زوايا الصندوق، ثم أدخلت «أم هلاغ»، (Um Halag) إليه وعانقتها قبل أن أغلق الباب. وفكرت: وماذا بعد؟ قال الشيخ حمدان أن بإمكاني اختيار حصان آخر من عنده، ولذلك توجهت لمشاهدة الأحصنة. سآخذ وقتي، فالصبر جميل، وسأشاهدها جميعاً لأعرف ما بإمكانها أن تصنع قبل أن أختار. كنت خجولاً من ناحية طلب حصان جيد، ولم يكن هناك أحد لمساعدتي في الاختيار، وقد يضيع جهدي. قد يكون حصاناً آخر لا يثبت القدرات. وبعد عدة أيام، كنت أتابع فرساً. لم تشارك في سباقات من قبل، وكانت تعاني من مشكلة أو مشكلتين تشابهان حالة «أم هلاغ»، (Um Halag). انتظرت الفرصة المناسبة عندما كان الشيخ حمدان في مزاج ممتاز، وطلبت منه أن يعطيني تلك الفرس. ابتسم وأخذني إليها. كان اسمها «رومانية»، وعدت إلى أجواء العمل!

هكذا بدأ كأس دبي العالمي. سباق بدأ بالشيفرة المسطحة التي استخدمت على رمال الشاطئ في دبي، وتطور ليصبح حدثاً عالمياً يتوج مكانة دبي في عالم سباقات الخيول.

قصة اسطبلات جودولفين

عندما دخلت وإخواني في عالم سباقات الخيول العالمية، كانت الأجواء ضعيفة فعلًا. صنعت دبي من خلال جودولفين ودارلي الوظائف، وحمت صناعة سباقات الخيول إلى حد كبير، من فترتين من الركود أثرت في مناطق عديدة من العالم. ولم يكن العمق أو العدد، ما عزز من مكانتنا فحسب، بل كان أيضاً دورنا الفعال خلال عقود كثيرة في تشكيل عالم سباقات الخيول وفي حفر اسم دبي في طليعة هذه الصناعة. أسست صحيفة (Racing Post Newspaper) وتدخلنا لإنقاذ دور «تشانيل فور» (القناة الرابعة) في السباقات. اسطبلات جودولفين هي إسطبلات دبي، ولدينا أكثر من 200 فائز على المستوى العالمي، وحوالي 200 فائز من «المجموعة1» في 12 دولة. كما لدينا 55 فائزًا «كلاسيك» حول العالم.

هذه هي القصة عن جذور جودولفين، الاسطبلات التي بناها إخواني وأبنائي وأنا سوياً خلال السنوات الماضية، من فرس أسود صغير اسمها «سوادة أم هلاغ». والأكثر من ذلك أن كأس دبي العالمي بدأ من قطعة أرض شاطئية في جميرا. وفي كل عام، أشعر أن هذا السباق هو نفسه الذي كان قبل كل تلك السنين… هو فرصة للاحتفال وفرصة لاستضافة زوارنا من كل بقاع الدنيا وفرصة للمشاركة في الفرح والسعادة والضحك والتعبير عن الشكر. أدعو الله تعالى وآمل أن يكون لدينا فائزون من حول العالم في كأس دبي العالمي هذا، وسيعني ذلك بالنسبة لي الشيء الكثير بالمقارنة مع أي شيء آخر، لأنني أعرف أن أهلنا في دبي هم فائزون مرات عديدة أصلًا وأن السباق رياضة يعتبرونها رياضتهم بكل فخر واعتزاز. إنها رياضة سيحمونها وسيورثونها لأطفالهم وأحفادهم والأجيال القادمة، كما نقلها والدي رحمه الله، إليّ.

المصدر: صحيفة الخليج