علي سعد الموسى
علي سعد الموسى
كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية

أبونضال، صالح المنصور

آراء

رحم الله أبونضال، صالح المنصور إذ حتى الكتابة في رحيله وتأبينه تحتاج إلى شجاعة قصوى وإلى صدر من الفولاذ لمواجهة سهام هذا المجتمع الضائق ولو حتى بفكرة مختلفة في رأس رجل واحد من بين كل هذه الملايين. هو منتهى النقيضين على طرفي ذات المسطرة: النكرة الذي عاش حياة صاخبة بحبائل الأفكار ومات مجهولاً في ثلاجة المشفى لبضعة أيام، ولربما بلا بطاقة تعريف. شخص قد يستغرب السواد الأعظم من القراء الكرام وجود اسمه في العنوان، ولكنه اسم العلم المعرف الذي كان “أيقونة” ملتقيات الثقافة ومعارض المعرفة، الذي يعرفه كل مثقف ومفكر وأستاذ جامعة. ومن النقائض أن “أبونضال” ابتدأ حياة “العمل” الوظيفي “أمير مركز” في مقتبل الشباب، وقبل خمسين عاماً في إحدى حواضر الأغوار التهامية، وكان يمكن يومها لثقافته الواسعة وقراءاته التقدمية أن تأخذه إلى أعلى الرتب والمناصب. لكن غواية الثقافة أنهته جثة هامدة ومجهولاً في ثلاجة موتى بعد أن اختار حتى أن يسكن حي “العمل” الشعبي في جنوب شرق الرياض، حيث غرامياته المتجذرة باليسار والعمال والاشتراكية. ظل أبونضال وفياً لهذه الأفكار حتى في الملبس. بدلة “الكاكي” البنية المبهدلة وحذاء سبيريا البالي القاسي بلونه الرمادي على القدمين. وأحياناً يرتدي “الكرفتة” الحمراء، ولا زلت أتذكر كم ضحكت معه وهو يحدثني عن “سجن” تلك الليلة التي اضطر فيها للبس الثوب والعقال والمشلح في مناسبة زواج لم يكن فيها لغيابه عذر. عاش أبونضال فعل التطبيق لا سفسطة النظرية. وذات مرة قرر تحويل مزرعته في بلدة الغاط إلى مزرعة تعاونية وأسكن فيها بعض الأسر الفقيرة مجاناً بشرط الالتزام بقواعد اليسار والاشتراكية، ومن المفارقة أنها كانت المزرعة الوحيدة التي ماتت واندثرت من بين جاراتها التي عاشت ونمت بضخ أباطرة رأس المال من حوله. قلت له مازحاً في بهو فندق: إنها “الأرض اليباب” في القصيدة الشهيرة للشاعر الأميركي، تي. إس. إيليوت، فرد غاضباً: تراب مزرعتي أنقى من وجه “أميركي” فلا تلصقها بمثل هذا الاسم. كان أبونضال، صالح المنصور، قلباً رقيقاً جميلاً ومفعماً بإنسانية طاغية. وبصحبة صديق مشترك أوصلته نهايات المساء من بهو فندق “البرجواز الثقافي” إلى مسكنه في حي “العمل”، وحتى في هذا المشوار القصير ما بين عالمين مختلفين في ذات المدينة تبدو النقائض: مؤمن بأفكار اليسار في شوارع مدينة من قلب نادي العشرين، وتسبح حتى سطح أعلى أبراجها في تنافسية “رأس المال” وملياراته الصاخبة. هو فيها لا يشبه إلا من يبيع الحلوى الرديئة في قلب مهرجان التمور، أو من ينافس لترويج “مربى المشمش” في مهرجان عسل السدر. لكنه لم ييأس ولم يتراخ في التبشير بأفكاره في مجتمع ينتج عشرة ملايين برميل من النفط في اليوم الواحد. وقبل الوصول لبيته، طلب أبونضال، المرور على بعض مطاعم حي “الغبيرا” الشعبي ليجمع منها ما لم يبع من طعام آخر الليل، وذهبت معه وهو يضعه على مدخل عمارة يسكنها البؤساء من العمال في آخر الحي. قلت له: هذه هي الاشتراكية في تعريفها الأدق الصحيح حين تتسول نهايات المساء على الرأسمالية التي تعطيها ما لا يباع بدلاً من أن ترميه فائضاً في أقرب زبالة. هكذا هو أبونضال: حياة صاخبة ونهاية مجهولة. تماماً لا تشبه إلا كتاب كارل ماركس عن “رأس المال”: أشغلت الدنيا وملأت عقول الناس ثم انتهى في المتحف “الثلاجة” فلا يباع منه في اليوم الواحد حتى نسخة واحدة.

المصدر: الوطن