بقلم عريض… ألغى اتفاقاً سيّء السمعة والمضمون

آراء

تقول «خبيرة» الخطوط البريطانية تراسي راسل: «إن توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفصح عن شخصية طموحة، ديناميكية، وشجاعة»، ثم تضيف: «لديه جوع للسلطة، ويملك الإصرار كما أنه مقامر عنيد… هو ربما لا يستمع جيداً للآخرين، لكنه مفاوض قوي، وينجح في اتخاذ مواقف متصلبة ومباشرة».

لست ممن يؤمنون كثيراً بتفسير الخطوط اليدوية ودلالاتها على نفسية كاتبيها، لكن المختصين بهذا المجال لهم شعبية واضحة لدى الكثيرين، ولعل بعض تفسيراتهم تصيب الحقيقة، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بشخصية عامة ومؤثرة مثل رئيس الولايات المتحدة الذي يحتل توقيعه غالباً نصف صفحة كاملة، ويحرص على أن يوقع بقلم أسود عريض ثم يعرض توقيعه بفخر على عدسات المصورين وهو يزم شفتيه دليل الإصرار.

هذا ما حدث الأسبوع الماضي في المكتب البيضوي حينما وقّع ترامب وثيقة الانسحاب الأميركي من اتفاق الحد من القدرات النووية الإيرانية التي وقعتها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي إضافة إلى ألمانيا مع إيران عام 2015، ويتلخص الاتفاق في تحجيم قدرات إيران على تخصيب اليورانيوم لمدة 15 عاماً مقابل رفع الحظر الاقتصادي المفروض عليها.

الآراء حول شخصية ترامب متعددة، وبغض النظر عن التحليل النفسي لخطه اليدوي، ولكن هذه الآراء تلتقي في منطقة بين الرئيس غير التقليدي والرئيس الجامح صاحب الهوس الشخصي والحالة النفسية المعقدة ذات التراكمات المخبوءة، لكن هذا لا يعنينا بتاتاً، فكل ما يعنينا هو تأثير قرارات وتصرفات الجالس في البيت الأبيض فينا في شكل مباشر أو غير مباشر، وكم من الرؤساء التقليديين ذوي السمت المتعقل اتخذوا من القرارات والسياسات ما أضر بمصالحنا القومية والوطنية ولعل آخرهم كان الرئيس باراك أوباما الذي وقع هذا الاتفاق السيّء السمعة وعمل من أجله، بل إنه عدّه من أهم إنجازات فترته الرئاسية. على رغم أنه تلقى تحذيرات من أن هذا الاتفاق هو إشارة خضراء إلى النظام الإيراني للتمدد في المنطقة وإحداث القلاقل التي تساعده على تنفيذ مخططه التوسعي، وبدلاً من أن يستمع إلى هذه النصائح فإنه مضى في غيه إلى حد التصريح بأن على دول الخليج (يقصد السعودية) مشاطرة إيران الزعامة في الشرق الأوسط، وهذا التصريح الذي أدلى به لمجلة أتلانتيك كان يفتقد أبسط المفاهيم الأخلاقية في السياسة الدولية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وكأنه كان يتوقع وهو المتخصص في القانون أن القادة السعوديين سيجلسون مع الإيرانيين على طاولة مفاوضات لتقسيم المنطقة وإلغاء حدود وشطب دول بهذه البساطة.

الاتفاق سمح لإيران بتنفيذ مخططها التوسعي في العراق وسورية ولبنان واليمن، وأعطاها من المال ما سمح بتمويل حروبها بالوكالة في هذه الدول وفي مناطق أخرى من العالم، وكل ما فعله هذا الاتفاق هو تأجيل حصول إيران على السلاح النووي وليس إلغاء الفكرة من جذورها، وهو بالتالي لم يرفع خطر سباق التسلح النووي في المنطقة ولم يقترب من هدف خلوها من هذا الخطر.

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كان واضحاً في هذا الصدد حين قال إنه في حالة حصول إيران على قنبلة نووية فإن السعودية لن تتأخر في الحصول عليها، وأخيراً أكد وزير الخارجية عادل الجبير هذا الهدف بما يعني أن السعودية جادة في تحصين إقليمها والحصول على السلاح الرادع لأصحاب الهوس الآيديولوجي العنصري التوسعي. والجميع يعرف أن السلاح النووي بعد تفجيرّي هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية بقي في مستودعات الردع لدى الدول التي تملكه، وهي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى إسرائيل والهند وباكستان، لكن العالم كان دائماً في حالة قلق من حصول أنظمة مغامرة على هذا السلاح الفتاك بخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتوزع ترسانته النووية ومراكز الأبحاث والتصنيع والعلماء بين الجمهوريات السابقة.

بعض المعلقين الأميركيين قالوا إن الاتفاق جاء من دون وجود إستراتيجية أميركية واضحة في التعامل مع إيران، ويخشون من أن الإلغاء يأتي هو أيضاً بالخطأ ذاته بحيث لا توجد إستراتيجية واضحة لدى إدارة ترامب للتعامل مع إيران، وبقية الدول الداخلة في الاتفاق ومنها دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تتحرك في معارضة إلغاء الاتفاق من منطلق مصالح اقتصادية ضيقة للحفاظ على عقود وقعتها أو تريد توقيعها في السوق الإيرانية، لكن من دون النظر في طبيعة السلوك الإيراني في المنطقة وما يمثله من تهديد للأمن الإقليمي والدولي. ولكن كشف الإدارة الأميركية عن الاتصالات القطرية بالمليشيات الإيرانية والتحذير الذي وجهته للدوحة في هذا الخصوص قد يعني أن ملامح إستراتيجية قد بدأت بالتشكل في واشنطن.

المضحك المبكي في هذا السياق أن يخرج بعض المعلقين «العرب» ليقولوا إن إدارة ترامب تسعى إلى وضع ما سموه إسفيناً بين القوى الإسلامية في المنطقة، ويزعمون أنها تريد أن يقوم السعوديون بمحاربة إيران بالنيابة عن واشنطن، ومثل هذا القول يمثل أدنى صفات الجهل أو حتى التجاهل، إذ إنه يصور الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالحمل الوديع الذي يودّ الخير لأشقائه المسلمين لولا تدخل قوى الشر للوقيعة بينهم، فهل يريد هؤلاء شواهد من التاريخ القديم أو الحديث عن عداء الأنظمة الإيرانية المتعاقبة للأمة العربية؟

المهم هنا هو أن الرئيس الجالس في البيت الأبيض، مهما كانت شخصيته، وقّع بقلم عريض على اتفاق سيّء السمعة والمضمون كان يحمل ضرراً لأمننا القومي… فإلى غير رجعة.

المصدر: الحياة