محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

أولويات خليجية

آراء

في المكان غير المضيء إلا قليلا على مسرح السياسة العالمية تجري أحداث الشرق الأوسط. نشاهد شخصيتين نستطيع أن نتبين معالمهما، هما الولايات المتحدة وإيران، تتصدران بشكل بارز الأحداث، بقية الشخوص تكمل المشهد.

انقسمت قراءة المشهد الذي يعرض على المسرح السياسي عربيا وإيرانيا.

بعض العرب تفاءلوا بهذا التقارب المحتمل الإيراني – الأميركي، لأنه قد يحمل في طياته اتفاقا على تجميد ما قامت به إيران حتى الآن من نشاط سياسي وتسليحي في المنطقة هو توسعي وهجومي، ويضع (الاتفاق) إن تحقق حدا لحالة سياسات الاستقطاب التي تفتك بالمنطقة وتكشفها على قاعدة البغض الطائفي المقيت، والبعض الآخر يرى أن هذا الاتفاق وراءه صفقة ما يجري الإعداد لها، وهي لن تكون بعيدة عن تقديم ترضية لإيران تحقق لها بعض طموحاتها السياسية، خاصة امتداد نفوذها في المنطقة.

القراءة المنقسمة لا تتوقف عند العرب، ولكنها تصل إلى شرائح إيرانية نافذة، بعضها يرى أن الصفقة القادمة تعني رفع الحصار عن إيران وقبولها في المسرح الدولي لاعبة مهمة تقرر مع غيرها مصير المنطقة، وتخرج الشعب الإيراني مما هو فيه من عوز اقتصادي يلامس جميع الشرائح ويهدد المجتمعات الإيرانية بانفجار من الداخل، وهو – تذهب هذه الرؤية للقول – انتصار للسياسة السابقة وتتويج لها وقطف ثمارها. وآخرون يرون أن هناك تفريطا إلى حد الخيانة قد ينسف الثوابت الإيرانية التي قامت عليها الثورة، يدعو إليه «المنحرفون والمنشقون» في الوقت الذي تنتصر فيه إرادة المقاومة الإيرانية في كل من لبنان والعراق وحتى سوريا، ويمكن تحقيق انتصار تاريخي على «الشيطان الأكبر» ومصالحه، إن استمرت سياسة المقاومة، وهو انتصار يزيح في النهاية هيمنة الولايات المتحدة والغرب كليا من على منطقة الشرق الأوسط، ويحقق للشعوب (من وجهة النظر الإيرانية) حريتها في نهاية المطاف.

على أي قراءة ينتهي التحليل نجد أن هناك ثوابت واضحة تتعدى القراءة السطحية أو التفسير المشبع بالأماني من الأطراف المختلفة، لتقترب إلى حقيقة مفادها بأن هناك حراكا دبلوماسيا يتجه نحو «تغيير قواعد اللعبة» وقد تستقر القواعد الجديدة على شيء من التوازن المؤقت أو شبه الدائم، إلا أن تغيير قواعد اللعبة مطلوب بشدة من الغرب (الولايات المتحدة وحلفائها) ومن الشرق (إيران ومن يدور في فلكها)، كل لأسبابه الخاصة، الطرف غير الموجود على هذا المسرح المتحرك الشخوص، هو الخليج! ونتيجة «تغيير القواعد» سيعده الطرفان لجمهورهما على أنه انتصار!

الغرب يرسل مجموعة من الرسائل إلى المنطقة أتوقف عند اثنتين منها لا تخطئهما العين؛ الأولى إدخال السيد باراك أوباما في خطابه على منبر الأمم المتحدة موضوع البحرين (الخليجية) بين شقي إيران وسوريا، وهي إشارة من الأفضل حساب نتائجها في المستقبل، والثانية هي الإعلان البريطاني لإعادة العلاقات الدبلوماسية البريطانية – الإيرانية، وهي أكثر القوى معرفة بالمنطقة وتشكل بوصلة للدخول الأميركي.

إن قرأنا كل ذلك على خلفية الوهن الغربي الظاهر، ومنه القبول بإشراك إيران فيما يخطط للمستقبل السوري دوليا، وكذلك الأزمة المالية والاقتصادية التي ما فتئت تضرب السوق الرأسمالية الغربية بشدة، إلى درجة تسريح عدد كبير من الجيش البريطاني بسبب تلك الأزمة، وتقليص الإنفاق العسكري الأميركي، مضافا إلى كل ذلك التردد الذي واكب تهديدات السيد أوباما ضد سوريا عسكريا والتصويت السلبي في مجلس العموم البريطاني، وانكفاء الإدارة الأميركية عن الذهاب إلى تصويت في الكونغرس تجاه الموضوع السوري، كل تلك العوامل تقرأها طهران على أنها انحسار ووهن غربي غير مسبوق، يحتاج الأمر – من وجهة نظر طهران – إلى تقديم تنازلات تكتيكي لحفظ ماء الوجه الغربي، عن طريق تقديم تنازل شكلي في موضوع تخصيب النووي الإيراني.

بعض الشرائح السياسية في إيران ترغب في اقتناص تلك الفرصة؛ السيد علي خامنئي طرح فكرة سياسية من أجل الاستفادة من كل هذا المشهد المتغير من دون الالتزام بمسار محدد، وهي فكرة «المرونة والانعطاف»، وهو شعار يستطيع كل المعسكرين الإيرانيين، الموافق على السير السياسي مع الغرب والمعارض له، أن يستفيد منه أو يفهمه بطريقته. بعض التحليل الغربي الذي نشر في الدوريات الأسبوع الحالي لا يخفي «الاحتفاء والترحيب» بعودة إيران إلى الحظيرة الدولية.

الإيرانيون، أو بالأحرى إدارة السيد حسن روحاني، ترى أن الموضوع برمته حتى الوصول إلى اتفاق قد يستغرق عاما لا أكثر، يكون فيه الموضوع السوري قد ظهر اتجاه حسمه، ليس من دون المساعدة الإيرانية، ويكون قد تخطى الجسم السياسي العراقي محطة الانتخابات العامة المقبلة وظهرت صورة العراق أكثر وضوحا، كما تكون الحالة المصرية قد استقرت على حال ما، وهو زمن تحتاجه الإدارة الإيرانية لحفظ حدة المعارضة الداخلية وترويضها.

حركة العرب وأهل الخليج ليست واحدة، فالبعض ما زال يراهن على الأيام الخوالي أن الغرب لن ينفك ملتزما بالوجود العسكري في المنطقة، كما أنه سيكون مستعدا لخوض صراع ربما مرتفع الوتيرة والتكلفة من أجل الحفاظ على الواقع القائم.

أرى أن هذا النوع من التفكير هو ارتكان ومراهنة ليس بالضرورة مطلقة الصحة، بغياب استراتيجية خليجية واضحة المعالم للداخل والخارج.

تجاه هذا التغيير الكبير يبقى الخليج متلقيا وليس فاعلا، مستجيبا لا لاعبا على مسرح «المرونة والانعطاف» من جهة، ومسرح «تغيير قواعد اللعبة» من جهة أخرى. الوقت أحد أهم العوامل التي يتجاوز أهل الخليج حسابها، فالتقدير أن الوقت يقوم تلقائيا بحل المشاكل هو تقدير عفّى عليه الزمن، فقد انتقل زمن «الموت لأميركا» في إيران في أسابيع قليلة، إلى غزل واشتياق، كما انتقل الوقت الغربي من جس النبض إلى إمكانية اتفاق وشراكة مع إيران، تذكرنا ولو من بعيد بخطة نيكسون «شرطي الخليج»!

مطالب الإصلاح أيضا جرى كنس بعضها تحت ساحة تعثر «الربيع العربي»، ولكن تلك المطالب قد تكون هي الخاصرة اللينة للنيل من أهل الخليج في المستقبل، فاللعب في الأمن الخليجي ليس بالضرورة أن يكون خارجيا، كما حددته الخارطة التي نشرتها «نيويورك تايمز» قبل أسابيع، فقد يبدأ بتحريك جهات داخلية أو توسيع المطالب المطروحة على غير توقع.

أما الملف الأكثر حساسية، فإنه وإن كان الغرب متحسسا من حيازة إيران سلاحا نوويا (في الغالب غير فعال استراتيجيا) لأنه صعب الاستعمال، إلا أن الخطر على الخليج من النووي الإيراني هو بيئي في الدرجة الأولى، لعلنا نذكر هنا كارثة تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي السابق منذ سنوات، وما تركته من آثار مدمرة على البشر والزرع والضرع، ولأن التقنية الإيرانية النووية تعتمد على تقنية من الدرجة الثانية، مع وجودها على أرض زلازل معروفة، فإن المخاطر هنا تتعدى التنظير إلى الواقع بالفعل. المتابع يلاحظ أيضا في هذا الملف أن السيد روحاني ربما بسبب ظروف داخلية وخارجية، قد صرف النظر عن إصلاح ذات البين في الجوار الخليجي الذي وعد به، ربما ترى طهران أنها ليست بحاجة إلى ذلك لأنها تتعاطى مع القوى الدولية، وذلك يكفي!!

الأشهر القليلة المقبلة سوف نتبين خارطة الطريق الدولية في المنطقة التي تتشكل، وقد يضاء المسرح بأنوار كاشفة أبهر. وهي نفس الأشهر التي يعد فيها جدول أعمال قمة خليجية ليس بيننا وبينها إلا أقل من ستين يوما، هل تكفي هذه الفترة للتفكير في وضع خطوط لاستراتيجية لها أولويات خليجية واضحة، تجاه الإقليم والمسرح الدولي، تحافظ على مصالح شعوبها من سوءات نتائج صفقة يعد لها ولكن ليس في السر!!

آخر الكلام:

ظاهرة ديمغرافية لافتة في الخليج، إذ تتصاعد أعداد السكان في المنطقة بمتوالية هندسية، في الوقت الذي تتراجع فيه نسبة الخصوبة (زيادة السكان المحليين) بشكل ملحوظ، مما يجعل مجتمع الخليج في الحقيقة مجتمع مهاجرين في أغلبه!!

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط