هاشم صالح
هاشم صالح
مفكر عربي يقيم في باريس

إشكالية الدولة المدنية

آراء

دشن المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية في الرباط نشاطاته لأول مرة بندوة عنوانها: «آفاق الدولة المدنية في العالم العربي». ومعلوم أنه موضوع الساعة الآن. وقد أسهم فيها كل من المفكر المعروف محمد سبيلا الذي ترأس الجلسة الأولى، ونوح الهرموزي أستاذ علم الاقتصاد في جامعة ابن الطفيل الذي افتتحها وترأس الجلسة الثانية. ثم تحدث محمد المالكي، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة القاضي عياض بمراكش، عن الدولة المدنية في الخطاب الحقوقي والسياسي العربي. وتلاه عبد السلام الطويل رئيس تحرير مجلة «الإحياء» الذي تحدث عن الدولة المدنية وسؤال المرجعية. وقال هذه العبارة المهمة: «لا دولة مدنية من دون ثقافة مدنية». ثم أضاف: «ميزة الدولة المدنية أنها تعامل جميع المواطنين على قدم المساواة من دون أي تمييز». وهذا ما اتفق عليه معظم المتدخلين والمناقشين. ثم جاء دوري لكي أطرح السؤال التالي: الربيع العربي إلى أين.. نحو دولة مدنية أم دولة دينية؟ وبعدئذ تحدث عز الدين العلام، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، عن علاقة الديني بالسياسي في النظام السياسي المغربي. وقدم لنا صورة دقيقة عن تاريخ العلاقات بين الدين والسياسة في تاريخنا العربي الإسلامي ماضيا وحاضرا. وأخيرا تحدث شفيق الغبرا، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، عن الحرية في ظل التغيير العربي: المدخل لمدنية الدولة. أعتذر جدا عن عدم ذكر جميع المتدخلين، خصوصا المناقشين في هذه الندوة المكثفة والناجحة فعلا.

هكذا نلاحظ أن موضوعات الندوة كانت فكرية وسياسية في آن معا، أو قل إنها حرصت على تناول السياسي من خلال الثقافي بغية تعميق البحث وتجاوز الخطاب الصحافي السريع عموما إن لم نقل السطحي، مع استثناءات عديدة بالطبع. وهذا ليس إدانة للصحافة، فليس من مهامها كتابة مقالات فلسفية! لكن الشيء المهم في الندوة ليس فقط المتدخلين، وإنما الحاضرون المناقشون الذين حرص محمد سبيلا على أن يكونوا من صفوة الطبقة الثقافية المغربية.

وهكذا اندلع النقاش على أعلى المستويات بين المحاضرين والصالة. واحتدم أكثر من مرة إلى درجة أن الندوة اغتنت بالأطروحات والأطروحات المضادة. واقترح المالكي إحلال مصطلح الدولة الوطنية محل مصطلح الدولة المدنية لأنه جامع أكثر ولا يقسم الشعب إلى قسمين، مدني ومتدين. لكنه اعترف بأن ذلك ينطبق على المجتمع المغربي الخالي من الانقسامات الطائفية على عكس مجتمعات المشرق. والواقع أن المشارقة هم الذين يركزون على مصطلح الدولة المدنية لأنه يساعدهم على تجاوز الطائفية والمذهبية اللتين لا أثر لهما في المغرب. فجميعهم هناك مسلمون سنة مالكيون.. فما حاجتهم إلى الدولة المدنية إذن؟ هكذا نلاحظ أن الفكر مرتبط بالواقع وحاجياته وليس تجريديا سابحا في الفراغ على عكس ما نظن عادة.

أما أنا فقد انطلقت في مداخلتي من النقطة التالية: في عالم 1784 قال الفيلسوف الألماني الشهير كانط: «لو سألوني هل نحن نعيش في عصر مستنير الآن؟.. لأجبت: لا، لكن في عصر سائر نحو الاستنارة». ولو طرحوا نفس السؤال على المثقف العربي بعد قرنين ونصف قرن تقريبا من سؤال كانط لربما أجاب في فورة غضب ويأس: لا، لسنا مستنيرين، ولسنا سائرين نحو الاستنارة أصلا! وبالتالي فعصر التنوير العربي لا يزال في ضمير الغيب أمنية عصية على المنال. هل يعقل أن تكون الشعوب الأوروبية أكثر تقدما عام 1784 من الشعوب العربية والإسلامية عام 2013؟ شيء محبط للهمم، مدوخ للعقول. هل تريدون مثالا عمليا على ذلك؟ بالأمس القريب أدلى أحد حكماء هذه الأمة، محمد حسنين هيكل، بتصريحات مدهشة حقا، عندما سألوه عن السلفيين والإخوان المزمجرين في شوارع القاهرة أو على شاشات الفضائيات، فأجاب: «ما يخيفني هو أن يعيدوا مصر إلى ما قبل عهد محمد علي ونابليون»! ثم أردف بهذه العبارة التي أراها جميلة جدا: «أكاد أرى الأضواء في مصر تنطفئ ضوءا بعد آخر». هل أصبح هيكل شاعرا؟ لم لا.. إنه «يجوهر» أكثر فأكثر على ما أرى. هل تعلمون بماذا ذكرتني عبارته؟ بعبارة لفولتير ولكن بشكل مضاد. فولتير صرخ قائلا في عز القرن الثامن عشر: «يا إلهي، ما أجمل هذا العصر، أكاد أرى الأنوار تنهال علينا من كل حدب وصوب! يا لحظ الأجيال القادمة التي ستقطف كل هذه الثمار وتنعم بتنوير العقول». أما معاصره كانط فقد أردف قائلا: «المجال أصبح مفتوحا لكي يشغّل الناس عقولهم، والعقبات أصبحت أقل من السابق بكثير، أقصد العقبات التي كانت تحول دون استهلال عهد الأنوار. وهناك علامات وإرهاصات على أن عصر التنوير العقلي قد اقترب. ولكن من الخطأ الظن بأن الناس في عصرنا أصبحوا مستنيرين. فالواقع أن أغلبية الشعب لا تزال تحت وصاية الكهنة ورجال الدين. وبالتالي فإننا يلزمنا وقت طويل لكي يستنير الشعب. هل يتحدث عن الألمان أم عنا نحن؟

وختاما فإن هذه الندوة المركزة كشفت لنا عنا إشكالية الدولة المدنية من كل جوانبها. وبينت لنا الفرق بينها وبين شكلين آخرين من أشكال الدولة: أي الدولة الأصولية الطائفية من جهة، والدولة الإلحادية على الطريقة الشيوعية الستالينية من جهة أخرى. وكفاها ذلك فخرا.

 المصدر: صحيفة الشرق الأوسط