هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

اغتيال الأنوثة وصناعة البويات

آراء

كان المجتمع النسائي لفترة قريبة، مجتمعا غامضا، لا يعرف شيئا عن أسراره ومشكلاته، أو جزءا مما يدور داخله معظم الأوقات. وذلك الغموض لم يكن صدفة، بل فرضته ثقافة العيب التي كانت تحاصر كل تحريكة و تسكينة تتعلق بالأنثى، حتى داخل مجتمعها المغلق، سواء كانت سيدة راشدة أو طفلة بريئة.

وفي كل فترة من الزمن، كانت تُغرق بكمية من الممنوعات التي تحسب عليها كأكبر الموبقات، ثم تتغير تلك الممنوعات في زمن آخر، لتصبح بقدرة قادر من المباحات التي تظل مسموحة لزمن طويل، ثم يأتي عليها وقت آخر يعيدها إلى الممنوعات مرة أخرى.

مر عليّ في زمن مثل كثيرات غيري في المدرسة عمليات تفتيش ومداهمة، بدأت في المرحلة المتوسطة واستمرت إلى المرحلة الثانوية. إذ كنا نُحذّر كثيرا من إبداء أي زينة أو استخدام مساحيق، حتى لو كانت من صنع الطبيعة، كان علينا أن نخفيها بأي وسيلة، وكنا نحفظ عن ظهر قلب أنها «عيب وقلة أدب وخلاعة»، وأهم شيء أنها جزء من الكبائر.

في ذلك الوقت، كانت تمارس الإدارة المدرسية دورها البوليسي، باستخدام أسلوب المباغتة، بقطع الدرس في منتصف أي حصة، من أجل القبض على الأمشاط، كانوا يجعلون الصف بأكمله يقف في محل شبهة، فنضع حقائبنا المدرسية على الطاولات أمامنا، ونضع أيدينا خلف ظهورنا، كيلا نحاول أن نخفي سلاح الجريمة.

فمن كانت تُضبط متلبسة بمشط، تعاقب ويُشهّر بها، وتعتبر طالبة عاقّة لم يُحسن أهلها تربيتها. كنّا نرتعد خوفا في كل مداهمة، لأن عقولنا البسيطة آنذاك، كانت لا تفهم كيف تحول المشط والمرآة في المدرسة إلى جريمة، بينما كنّا نستخدمها في منازلنا أمام أمهاتنا وآبائنا.

أتذكر في أحد أيام تلك الفترة التعيسة، شكت المراقبة أن إحدى الفتيات في فصلي تضع كحلا في عينيها، فسحبتها من الطابور ووبختها أمام الجميع، وحتى بعد أن أقسمت الفتاة بأنها لا تضع كحلا، أصرت المراقبة أن تزيله، وأخذت تفرك عينيها بمنديل أمام الجميع، لتكون عظة وعبرة لكل من تسول لها نفسها وتفكر في أن تكتحل، أو تمشط شعرها، إلى أن احمرت جفونها وتساقطت رموشها، ومع ذلك لم يمحُ ذلك الفرك الخشن أي آثار للكحل، الذي كان مجرد رموش كثيفة لفتاة في المرحلة المتوسطة!

واستمرت المدرسة طوال المرحلتين المتوسطة والثانوية في محاربة واغتيال أي بوادر تشي بملامح الأنوثة على الطالبات، حتى من تتورد خداها من اللعب أو البرد أو الحر، أو الخوف أو الإحراج، كانت تتعرض للقبض والفرك القاسي، والمشكلة حين لا تجد المراقبة أو المرشدة آثارا للمساحيق، كانت لا تعتذر، بل تردد «لا تتعودينها مرة ثانية» !

حتى الزي المدرسي لم يسلم من الشكوك، فمن كان زيها يضيق أو يقصر تتعرض للتوبيخ والاتهام بالخلاعة والتعمد بإظهار جسدها، مع أن معظمنا كانت أسرتها لا تملك أن تفصل لها زيّا مدرسيا جديدا كل عام.

وفي المرحلة الثانوية، كبرنا قليلا وبدأنا نفهم، فتعمدنا أن نفصّل زيّا مدرسيا فضفاضا، له قَصة تشبه ثوب الرجال، كي لا نتهم «بالخلاعه وقلة الأدب»، وعمدنا إلى ارتداء أحذية رياضية، كي لانتهم بالمشي «بدلع وميوعة».

في ذلك الوقت، اعتقدنا أننا بذلك نستطيع التخلص من الاتهامات، وخلق توازن، نرضي به الإدارة المدرسيه، إلى أن شوهنا وأخفينا جميع ملامح الأنوثة التي كانت تعتبر «قلة أدب وخلاعة»، وفِي حالات أخرى من أكبر الموبقات.

كان أمرا محيرا وغريبا حقا، أن تفصل جامعة 27 طالبة دفعة واحدة، مستندة إلى 10 مخالفات ارتكبنها، مثل أن تكون شعورهن قصيرة، أو أنهن يستخدمن صبغات شعر فاتحة، أو يضعن مساحيق، أو يلبسن أقراطا أو حليا، ويلبسن ملابس رياضية، ونوعا محددا من الأحذية، ويمشين مثل الرجال ولا يلبسن أطواقا أو ربطات شعر.

نعترف بأن في مجتمعنا شواذ مثل «البويات» و المسترجلات، وربما هناك أمور نجهلها عن سبب تكاثر ظهورهن في المجتمع، ولكن أن نتهمهن جزافا، لأن ملامحهن حادة، وأكتافهن عريضة، ولديهن شامة في الوجه، فهذا أمر مبالغ فيه، يخرج عن مساره التربوي.

الجدير بالذكر، أن وحدة الإعلام في الجامعة أكدت أنه لا يتم الفصل إلا بعد متابعة تمتد على الأقل ثمانية أشهر، تتضمن التنبيه والتوجيه والتعهدات وجلسات مطولة مع إدارة التأديب.

وذكرت وحدة الإعلام أن الجامعة تأسف كل الأسف لاضطرارها لمثل هذه القرارات الصارمة، ولكن مسؤوليتها التربوية والأخلاقية والتعليمية تحتم عليها ذلك، نظرا لأن تلك الممارسات تعدّ إخلالا بالآداب العامة وتضر الآخرين، دون أن تذكر الجامعة الآلية التي اتبعتها لمعالجة هذا الأمر مثلا، طالما شددوا في التصريح على مسؤوليتهم التربوية، ولكن في عالم النساء الخطأ لا يغتفر بسهولة، في وقت أصبحت فيه المناصحة حكرا على الإرهابيين.

تاريخ اغتيال الأنوثه في مجتمعنا بدأ في المدرسة، حين اعتنق الجهل خزعبلات عكرة و مسمومة، وسقاها لبراعم صغيرة لتسمم معتقداتها حول نفسها، وتطمس طبيعتها بيديها، للفرار من اتهامات مجحفة. ليعكس هذا مدى قصور وعبث المؤسسة التعليمية آنذاك في حق عدة أجيال، بالإسهام في صناعة الشواذ من المسترجلات و«البويات» اللآتي وصلن إلى الجامعات، فمنهن من تجاوزت تلك الفترة التشويهية، وأخريات لم يتجاوزنها لعدة أسباب، أقلها اختلاف النفس البشرية في تحمل الضغوط النفسية، ومدى تأثير العوامل الخارجية عليها.

كل شيء يحدث في هذا العالم لا يحدث من فراغ، أو من تلقاء نفسه، بل خلفه ألف سبب وسبب، يساعد على حدوثه أو تحويله إلى مشكلة، وكما جرت العادة، إذا تعقدت المشكلة وتفاقمت مع مرور الوقت، لا نواجه أنفسنا بالأسباب الحقيقية بشجاعة، بل ننزل غضبنا على النتائج النهائية، ونحكم عليها بإنزال أقصى عقوبة، ليفر المتسبب الأصلي كالعادة.. وتعاقب الضحية.

المصدر: الوطن