جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

اكسروا السيف واحتكموا لصندوق الاقتراع

آراء

انتخابات الرئاسة اليمنية التي جرت الثلاثاء الماضي، ليست هي غاية مرام الثورة اليمنية وشبابها، والقوى السياسية فيها الرامية إلى تغيير حقيقي، ولكنها الحكمة اليمنية أخيراً تتغلب. إنه إعلان قبولهم بالتوافق وحلول منتصف الطريق، عوضاً عن المواجهات وسياسة كل شيء أو لا شيء.

هذه الروح يجب أن تمتد لتشمل الجميع، الحوثيين والسلفيين والحراك الجنوبي والجيش الذي تشظى، كل هؤلاء الذين يقتتلون بأجساد أنهكها المرض والفقر، فوق أرض بائسة انعدمت فيها الفرص، ولن أذكر «القاعدة»، فهؤلاء لا أمل فيهم أن يصيبهم بعض من الحكمة اليمنية.

حان الوقت أن يفعل اليمنيون ما فعل أجدادهم، أن يجتمعوا ويكسروا السيف، إيذاناً بأنهم لن يحتكموا للسلاح. إنها روح الإسلام وروح الربيع العربي التي تحرِّم دم المسلم على المسلم، إذ بات عندهم أداة التوافق المجربة، وهي صندوق الاقتراع، فهو الحَكَم العادل، وليس حكم الفرد ومكابدات علي عبدالله صالح الذي حكمهم بمبدأ «فرِّق تسد».

قصة كأنها أسطورة، يرويها الحضارم. سكان شرق اليمن هم أم جنوبه؟ يعتمد كيف تراهم، هم بعض من سكان جدة أيضاً؟ تحديد من هم الحضارم قد يحدد مستقبل اليمن الجديد، القصة الأسطورة أن القبائل الحضرمية التي قطنت أرضاً موحشة بجنوب الجزيرة حول واد يضيق بقدراته، وساكنوه اقتتلوا لعقود، حول الأرض تارة، والرعي تارة أخرى، والثأر تارة ثالثة، وهكذا مضوا يفقدون الأحباب في دورة من الدم والثأر والانتقام فوق أرض قاسية لا تعطي من لا يعمل ناهيك عمن يقتل أخاه.

استعر القتل بينهم حتى قيض الله لهم علماء من السادة العلوية، ممن ينتسبون الى البيت النبوي الشريف، فجمعوا السادة شيوخ القبائل وكبار المقاتلين في أرض فلاة، ووقفوا فيهم يذكرونهم بالله وحرمة دم ومال المسلم على المسلم، جلس أحدهم على صخرة، وأخذ سيف أحد صناديدهم وكسره على فخذه، معلناً تحريم القتال بين الإخوة. كان إعلاناً لحركة «اللاعنف» قبل غاندي ومارتن لوثر كينغ وجودت سعيد، كانت حركة إسلامية خالصة أعجب أن تغيب عنا، وقد خطب سيد البشر فينا يوماً بواحدة من أعمق وأهم رسائله «دماؤكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا إلى يوم القيامة». كيف تغيب عنا هذه الرسالة دوماً من صفين إلى دماج؟

بعد هذا الصلح، اكتشف الحضارم أن ما يجنونه من السلم أكثر من الحرب، عمروا واديهم، وبنوا فيه ناطحات سحاب في شبام، وما لا يوفره الوادي والصحارى القاحلة حوله يوفره البحر والهجرة، هاجروا شرقاً حتى أندونيسيا، فنشروا الإسلام فيها واستفادوا تجارة ومالاً وفيراً. حيدرأباد في وسط الهند كانت درة الحضارم، فكانت لهم ما جنيف لأثرياء العرب اليوم، كانوا يجنون المال الهائل هناك فيعيدونه إلى واديهم، فشاع الرخاء في الوادي وانتشر العلم والعمران فيه وفي ما حوله، حتى المكلا والشجر على البحر.

هذه السنّة الحميدة انتقلت إلى غيرهم في اليمن، فانتشر أيضاً يمنيو الشمال حتى بلغوا مانشستر وديترويت، ناهيك عن جدة التي يمكن تجربة الحضارم ويمنيي الشمال فيها أن تكون نموذجاً لعلاقة الاقتصاد الواحد، ما يغنيهم عن الإصرار على الأقل في المرحلة المقبلة على الدخول في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، لو حصل اليمن الجديد المستقر الذي لا يقلق جيرانه على اتفاقية تجارة حرة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، لكانت خيراً لهم من بلايين كانت تأتيهم على شكل مساعدات تصب في خزينة دولة فاسدة تهدرها. إن حرية تجارة مع جيرانهم تنمي اقتصاد سوقهم وتجارهم وأصحاب المبادرات منهم كفيلة بنشر الرخاء مباشرة من السوق إلى السوق وعبر رجال الإعمال من دون حاجة إلى دولة شمولية عقيمة كتلك التي جثمت عليهم أربعين عاماً، مع عسكري لا يفقه في التنمية وفنونها مثل علي عبدالله صالح، الذي كان يجيد فن الحكم والسلطة لا الإدارة والتنمية.

لقد قاطع الحوثيون الانتخابات، ولكنهم لم يمنعوها، وحاول أنصار الحراك الجنوبي منعها، ولكن عجزوا عن الحشد اللازم لذلك ما يعني أن الرأي العام اليمني بات يميل الى التوافق، وهو ما ظهر في انتخابات الثلثاء.

انتخاب نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي يعني قبول غالب اليمنيين بالحل التوافقي، فالرجل ليس بالبطل القومي الذي تريده الثورة وإنما يمثل تصويت اليمنيين له ولو على مضض تفضيلهم لحل توافقي ينتهي بهم خلال عامين إلى الدولة الحديثة التي تُحكم من خلال صندوق الاقتراع وليس بقوة السلاح.

انغلاق آفاق التغيير خلال نظام صالح الذي حكم بالقوة كان مبرراً لمن لجأ الى القوة، كالحوثيين والحراك الجنوبي، ومن حاول الانقلاب كعلي محسن، ومن حاول اغتيال الرئيس في مسجد النهدين، ولا نعرف من هو حتى الآن، ومن لجأ الى الشارع والاعتصام، كشباب اليمن الذين سدت في وجوههم احتمالات الحياة الكريمة، أما اليوم، فثمة فرصة تاريخية لكل اليمنيين أن يحيوا روح التوافق والمشاركة، ويعيدوا امتلاك قرارهم، فيمنعون اليمن أن يكون ساحة صراع بين إيران والمملكة، التي تفضل أن تكون شريكاً لهم، لا متصارعة مع فريق منهم يريد أن يضخ لليمن صراعاً إقليمياً هو في غنى عنه.

حول العالم كفاءات يمنية ذات خبرة في التنمية والصناعة، أكثر من حيدرأباد وجاوا وجدة، يمكن أن تصب مال اليمنيين منها إلى يمن بحاجة إلى فرص عمل. هذه الكفاءات تحتاج إلى الاستقرار، لا تجيد استخدام السلاح، بل إن السلاح يبعدها عن اليمن ولو اختفى الاحتكام له لعادوا بخبراتهم وأموالهم.

يجب أن يقتنع اليمني أنه هو الذي يستطيع بالعمل والإنتاج أن يغير مصير بلاده، ويتخلى عن التعلق بأمل لن يتحقق أن الرخاء سيأتي لو دخل اليمن مجلس التعاون، فهذا لن يكون طالما أن 40 في المئة من شعبه تحت خط الفقر المدقع.

تحقيق الرخاء بالجهد الذاتي، والمال اليمني المغترب ممكن، وكذلك بمشاركة دول المنطقة، التي يجب أن تتوقف عن تقديم مساعدات، وإنما توفر استثمارات فتفيد وتستفيد، وقبل ذلك يجتمع علماء اليمن شافعية وزيدية وحوثيين وسلفيين، ويخطب أحدهم بخطبة الرسول عليه الصلاة والسلام «دماؤكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا إلى يوم القيامة»، ويكسر سيفاً على فخذه، معلناً بداية عصر يمني جديد من السلام.

دارالحياة