د. عبد الحميد الأنصاري
د. عبد الحميد الأنصاري
كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي

الإقصاء.. خطاباً ومنهجاً سياسياً

آراء

على مر التاريخ الإسلامي، كان الإقصاء هو المنهج الحاكم للمجتمعات العربية والإسلامية، وكانت السياسة المستمرة لكل طائفة حاكمة هي إقصاء وتهميش الطوائف الأخرى، وكان الخطاب الديني والمذهبي خطاباً إقصائياً للفرق الدينية الأخرى. تاريخ الخلافة الإسلامية، ومنذ أول خلفاء بني أمية، وحتى آخر سلاطين بني عثمان وسقوط خلافتهم عام 1924، كان تاريخاً من القمع والقهر والإقصاء والتمييز والتهميش ضد الطوائف والأقليات والمستضعفين. كان الخلفاء يتظاهرون برعاية أمر الدين، ويضعون على وجوههم أقنعته ويستخدمون شعاراته لإخضاع البلاد والعباد تحت مقولات: وجوب طاعة الخليفة، ويهدمون في كل يوم تعاليم الدين ومقاصده في تحقيق العدل والحرية والشورى والمساواة والتكافل واستقلال بيت مال المسلمين عن مال السلطان. هناك فترات تحقق فيها العدل، خاصة خلال العهد الراشدي وفي عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، وبعض الخلفاء الآخرين، لكنها كانت ومضاءات مضيئة في سماء مظلمة، وقد شكلت استثناءً من القاعدة العامة.

لقد منّ الله سبحانه على عباده بأن منحهم حرية الاختيار، وحق الاختلاف، فخلقهم مختلفين أجناساً وألواناً وأدياناً ولغات وطباعاً وعقولاً، مصداقاً لقوله تعالى (ولذلك خلقهم)، أي من أجل الاختلاف الخلاق الذي يتم به إثراء الحياة وإعمار الأرض وتحقيق التقدم والارتقاء، وكان من نعم الله تعالى أن رزق الأمة الإسلامية ديناً، لا يعرف كهنوتاً ولا «بابا» يتحكم بضمائرهم ويفرض وصايته عليهم، فلا حرج في الاختلاف المذهبي أو الطائفي أو الديني، فتلك مشيئة الله حتى قيام الساعة، ولا مشكلة في الاختلاف السياسي أو الفكري، لأنه يعكس ثراء الفكر الإسلامي ومرونته أمام المتغيرات. وفي المأثور «اختلاف أمتي رحمة» لذلك كان عجباً أن يصطنع دعاة الإقصاء، حديثاً ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يفرقون به بين الطوائف والفرق الإسلامية بزعم أن «الفرقة الناجية» فرقة واحدة، أما بقية الفرق فهي في النار! إنه حديث افتراق الأمة إلى 73 فرقة «كلها في النار إلا فرقة واحدة» الذي رسخ المنهج الإقصائي في المعتقد الديني والمذهبي، كما غذى شجرة التعصب الطائفي.

ومما يؤسف له أن يتقبل المسلمون تلك الفكرة ويسلموا بها تسليماً، دون نقد أو تمحيص، ثم يقيموا عليها مؤسساتهم التعليمية والدعوية، ويكيفوا علاقاتهم البينية وفقها، مع أن أي نظرة فاحصة لذلك الحديث، سنداً ومتناً، تستبعد صدوره عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

إن الإقصاء بكل أشكاله، السياسية والدينية والمذهبية، هو آفة مزمنة، وهو أصل الداء ومصدر كل ما نعانيه من مظاهر التخلف: التعصب والتفرق والاستبداد والتطرف وشيوع الفساد.

وأخيراً: تلك أمة خلت، لها ما لها وعليها ما عليها، ونحن أبناء هذا العصر، علينا مواجهة خطاب الإقصاء ومنهجه بحلول إجرائية عملية، إذ ثبت عدم جدوى مؤتمرات التقريب بين المذاهب، أو الحوار بين الأديان، لأنها تعيد إنتاج الإقصاء، مرة أخرى، إذ يهتم كل طرف بالانتصار لمذهبه ودينه، والبحث عن مثالب الآخر وإفحامه.

المواجهة تتطلب أولاً: الاعتراف بـ«شرعية الاختلاف»، والإيمان بأن الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب واحد أو تفسير واحد أو اجتهاد واحد. كما تتطلب ثانياً: تبني فكر حضاري إنساني جديد. وتتطلب ثالثاً: ترجمة هذا الفكر في مناهج تعليم وتربية ينشأ عليها الناشئة، وتتبناه وسائل إعلام، ويتضمنه خطاب ديني متسامح، كما تعكسه سياسات لا تميز بين المواطنين بحسب معتقداتهم، وتشريعات عادلة لا تقصي الآخر المختلف.

وعلى دولنا أن تنأى بنفسها عن تبني خيارات مذهبية أو طائفية، وعليها كفالة حقوق الأقليات، بتوفير فرص متكافئة لجميع المواطنين في هذه الدول، في التعليم والإعلام والوظائف العامة.. إذ لا يجدي الحديث المتكرر عن التسامح والوحدة الوطنية، إذا كانت التشريعات تميز بين المواطنين، والواقع المعاش يتناقض مع قيم العدالة.

المصدر: الاتحاد