شتيوي الغيثي
شتيوي الغيثي
كاتب وشاعر سعودي

الاختلاف وسؤال الأخلاق

آراء

يحصل أن يحدث حدث ما، كبيراً كان أم صغيراً، في أي مكان من هذا العالم، ثم يرتبط هذا الحدث أحياناً بعلاقة قريبة أو بعيدة من الحالة الدينية التي يتواجد فيها عدد من المتدينين أو غير المتدينين، أو حتى أولئك الذين لا يربطهم أي دين محدد لتنشأ علاقة تساؤلية بين الأطراف المختلفة حول الإشكالية المطروحة، وتزاد المسألة حينما يتم إقحام الدين في المفاهيم الاجتماعية المتداولة، ولنقل مثلا مسألة الحجاب أو مسألة تغطية الوجه لدى المرأة، بوصفها أكثر القضايا المثيرة للجدل في عديد من البيئات حتى الغربية أيضا، على رغم احترام مفهوم التعددية لديهم.

في هذه الحالة سنجد عدداً من المفاهيم الدينية المختلفة يمكن طرحها في المجلس الواحد وسنجد كثيراً من التبريرات المختلفة، إذا كانت المشكلة مطروحة بشكل انتقادي، وسنجد كذلك عدداً من محاولة تحسين الصورة لدى الآخر غير المسلم مثلا من قبل المسلمين لمعتقداتهم وتصوراتهم الدينية، خاصة في القضايا المحرجة، وعلى هذا سنجد مفاهيم متنوعة يصعب معها فهم القضية من قبل الآخرين فهما سليما يمكن الوقوف عليه، وقد يرى البعض أن في ذلك شيئاً من التعددية في الدين الواحد، لكن سيراه البعض إشكالية لابد من حلها بفرض تصور واحد حول الدين، والإشكالية أكثر أنه في داخل الجلسة الواحدة سنجد ادعاءات عديدة تطرح نفسها الممثلة للدين “الصحيح”، وأتعمد وضع كلمة الصحيح بين مزدوجين، للتأكيد على أن كل فرقة حتى لو كانت قليلة من الناس ترى نفسها الصحيحة وغيرها الخاطئة والإشكالية في نظري تأخذ منحى مختلفاً وهي أن مفهوم التعددية لدى المسلمين أو لدى بعض عدد كبير من المسلمين ما زال يحتاج إلى إعادة نظر، لأن اختلاف الثقافات يفضي إلى اختلاف المعتقدات، ولا توجد هناك قابلية لدى بعضها لتلك التعددية. 

في تصوري أنه لا يمكن فهم التدين خارج العلاقة بين الدول، سواء في العصور القديمة أو في العصور الحديثة، وإذا كانت الدولة في العصر الحديث قد أعطت التدين مساحته الخاصة دون إدخاله في المجال العام، فإنه في العصور القديمة كان يدخل الدين بشكل عام ضمن مفهوم الدولة، أو لنقل ضمن المفهوم الاجتماعي لنشوء عدد من الأديان، ولذلك يصعب فك ارتباط دين ما عن البيئة التي نشأ فيها أو انتشر، بل يصل الأمر حتى للطوائف والهويات الدينية المختلفة داخل الدين الواحد بوصفها مفاهيم مختلفة للدين، ففهم الدين أيضا ينتج من حالة الدولة أو البيئة التي ينتشر فيها، ولذلك يكون لدينا عدد كبير من المفاهيم الدينية بعدد اختلاف الدول أو البيئات، ومن هنا فإنه يصعب وضع إطار واحد للدين في أي بيئة كانت، الأمر الذي قد يشوش على الآخرين في فهم ذلك، لكن يبقى الاختلاف في تصوري حالة جيدة لكي لا يمكن وصم أي دين بأي صفة سيئة أو احتكار الحقيقة الدينية لدى فئات دون غيرها، فالاختلاف من طبيعة الأشياء، لكن الإشكالية تنشأ من الموقف من هذا الاختلاف، هل سيكون موقفاً إيجابياً أم موقفاً سلبياً؟

في المجتمعات التي توجد فيها التعددية واضحة ومقبولة، بل وتعتبر أمراً محموداً أو ذات قيمة كبرى لديهم تختلف في مواقفها عن المجتمعات التي ترفض فكرة الاختلاف، أو تقف منه موقفاً سيئاً بحكم اختلافه لا أكثر، ففي المجتمعات التي تقبل الاختلاف سنجد أن أي فكرة مطروحة سيكون لها قبولها حتى لو كانت غير مقبولة تماما عند غيرهم، فحقها يكون في اختلافها ما دامت تخضع للمبدأ الإنساني إلى درجة. لا توجد هناك فكرة غير مقبولة بل كل فكرة تخضع إلى الترحيب حتى لو كانت تحت طائل النقد. هذا الأمر لا تجده في المجتمعات التي لم تعتد على وجود المختلفة كثيرا، ففكرة توحيد الأفكار واحدة من أهم الأمور التي يشتغل عليها غالبية أبناء المجتمع الواحد الذي يؤمن بفكرته بوصفها الفكرة الصحيحة، فضلا عن رفض نقدها أو إخضاع تلك الأفكار إلى المساءلة الفكرية.

هناك مبدأ أخلاقي عند مجتمعات التعددية لا يوجد عند المجتمعات التي تؤمن بالصوت الواحد أو الفكر الواحد. المبدأ هو الدفاع عن حق المختلف واعتباره قيمة في حد ذاته. تتحقق قيمة المختلف من كونه فرداً في هذا المجتمع، وما دام أنه فرد على اعتبار أن الحق العام لا يمكن أن يتعارض مع الحق الخاص، فالحقوق الخاصة مضمونة في إطار التعامل مع الآخرين، والموقف الأخلاقي لا يمكن أن يكون خاضعاً إلا لمسألة الحريات الشخصية التي هي حق أصيل لهذا المختلف تحقق له اختلافه. هذا المبدأ لا نجده في المجتمعات التي تؤمن بأن صوتك هو صوت الجماعة أو الأمة أو حتى صوت الوطن. صوتك الخاص ورأيك ومعتقدك وطائفتك واختلافك لا قيمة لها ما لم يحقق مفهوم الصالح العام، فالحق العام يطغى على الحق الخاص ويلغيه في مجتمعات الصوت الواحد، والإشكالية الأخلاقية التي تنشأ من هذه الحالة أن الحق العام تعدى على الحقوق الإنسانية ويمكن أن تكون هناك إشكاليات كثيرة لا حصر لها في إظهار الحق الخاص أو إظهار الحريات الشخصية، فالإنسان لا قيمة له إلا وفق قيمة الجماعة والتي هي في حالة هيمنة كلية على إنسانية الإنسان، ولذلك فالعلاقة الأخلاقية التي لابد أن تنشأ بين أفراد المجتمع الواحد في أساسها علاقة مرتبكة أو علاقة نفاقية -إذا صح الوصف- حيث يستلزم إظهار وجه يختلف عن حقيقته، ولذلك كثيرا ما توصف المجتمعات الواحدية بالازدواجية، كون الحق الخاص مغيباً لمصلحة الحقوق العامة. فالعلاقة الأخلاقية علاقة مرتبكة ومتوترة ما دام أن الإنسان غير قادر في التعبير عن نفسه بصدق وبصراحة كبيرة سلوكياً أو لفظياً، لأن الأخلاق في الاختلاف هي أخلاق الذات الناشئة عن ذاتها تجاه الآخر كونها ذاتاً حرة، في حين أن الأخلاق في الحالة التماثلية تكون الذات مستقبلة وخاضعة لتحكم الآخر بها، وهنا مكمن الإشكالية في الفهم الأخلاقي.

المصدر: الوطن