التسامح.. ضروري وممكن

آراء

لا نمل من تكرار الحديث عن فكرة التسامح، ومفهومها الفلسفي والقانوني والسياسي والأخلاقي، ولا نتردد بالقول إنه مازال لدى البعض، فهم ملتبس لمفهوم التسامح وخلط ما بين مفهوم التسامح الحديث والعلمي، كما هو وارد في أدبيات السياسة والفلسفة والثقافة والقانون، ومفاهيم العفو والصفح والمغفرة، وهي مفاهيم ذات قيمة أخلاقية عالية وفضائل دعا إليها التنزيل الحكيم، وفيها دوماً، شخص قادر على المغفرة والصفح، في مواجهة شخص آخر أخطأ بحق الشخص الأول، أو أساء إليه أو تسبب بإلحاق أذى له.

– بمعنى آخر، في هذه المفاهيم شيء من «الفوقية».. تصرف نبيل في مقابل تصرف فيه إساءة للآخر.. والسؤال هنا!

ماذا نقول عن شخص لم يرتكب أذى أو إساءة بحقك؟ في كون عامر بالاختلاف والتنوع والتعدد، في الأرزاق والعقائد والثقافات والآراء والأعراق والألوان والتقاليد، كيف يمكن أن نقيم العمران الإنساني، والعيش المشترك، والعدل والوئام والتعاون والتعارف، بدون قبول واحترام للاختلاف، وقد خلق الله البشر، مختلفين شعوباً وقبائل، ليتعارفوا ويتعاونوا، لا ليتصارعوا ويتباغضوا؟

– وكانت رسالات الأديان موجهة للخلاص الجماعي، الذي يتم به عمران الدنيا، ونماء ثمراتها بإبداع العقول، واكتشاف المجهول، عبر مسيرة إنسانية من القيم الحافظة لجوهر التعاون في علاقات الناس بالناس، ولحماية كرامة الإنسان، وهي قيمة أسبق من كل انتماء أو هوية حضارية، وهي حصانة أولية للإنسان ثابتة له بوصفه إنساناً، كرمه خالقه، وجعله خليفة في أرضه.

– التسامح، هو المفتاح.. هو مشروع ثقافي هائل، يقود إلى مجتمعات قادرة على السير بتوازن تحت أي ظرف، والتعاطي مع التحديات بذكاء بالغ، وهو أيضاً ليس مجرد فعل تنظيري أو ثقافة شكلية، وإنما هو ممارسة وامتحان للتنوع، واحترام الرأي الآخر.

– لقد أشفقت على محمد شحرور، وهو يخرج من عزلته التي تفرغ طويلاً خلالها للبحث والتأمل والتأليف، متبعاً منهجاً معرفياً معاصراً، فكرياً، ولغوياً وفقهياً، ساعياً لتجديد الفكر والخطاب الإسلامي، وقدم اجتهادات على مدى العقود الأربعة الماضية.. وحاوره علماء من الأزهر ومن خارجه، وردَّ عليه، باجتهادات مغايرة، علماء وكتاب، من غير تكفير أو شتم أو إهانة.. باعتبار أن الفكر الذي ينفع الناس، يمكث في الأرض.. لكن ما الذي جرى، حتى تنصب عليه اللعنات في وسائل اتصال اجتماعي في وقت لا نتوقف فيه عن التغني بالتسامح، وعن الحوار والانفتاح على الآخر المغاير؟

– ماذا فعل هذا المجتهد الشحرور، حتى نكفره.. في وقت قبلنا فيه فتاوى الأزهر، بعدم تكفير الدواعش وأمثالهم.. باعتبار أن التكفير، مسألة معقدة، والله وحده يفصل فيها.

– لم يحمل شحرور ساطوراً للقتل ولا امتطى أو عبأ بالألغام سيارة مفخخة، ولا سبى صبايا ونساء أو دمر مجتمعات، وقتل نفوساً حرم الله قتلها.

* تذكرت، ما جرى للروائي نجيب محفوظ.. ومحاولة ذبحه بالسكين.. باعتبار روايته «أولاد حارتنا» رواية فاجرة، ولما سئل الجاني عن تلك الرواية، قال: «إنه لم يقرأها، بل قيل له عنها».

* وفي ظني أن الكثيرين ممن كفَّر ولعن محمد شحرور، لم يقرأوا كتبه.. ولم يتعمقوا في أطروحاته واجتهاداته، وبعضها يحتاج إلى نقد وتصويب.. بالأدلة والأسانيد.. لكن يبدو أن مفهوم التسامح وقيم الحوار.. مازالت تحتاج إلى تأصيل وتعزيز وتربية ومعرفة..

– في كل مرة، أقرأ اجتهادات شحرور، أعود فأراجع التراث، وأستذكر بحوثاً معرفية عظيمة، لعلماء، اجتهدوا في عصرهم ولأهل عصرهم، وبأدوات معرفية معروفة لديهم في زمنهم وأمكنتهم.

– كيف نتدرب، وندرب الأجيال على امتلاك القدرة على احتمال وقوع الخطأ في الاجتهاد، والعمل بالحكمة القائلة إن «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب»، أي الاعتراف المتبادل بالحق في الاختلاف، واعتبار أن التنوع، آية من آيات الله في خلقه؟

– إن الحاضن الأساسي للتسامح هو الدولة من خلال نظمها التعليمية والإعلامية والدينية والاجتماعية والثقافية والتشريعية، وصولاً لجعل التسامح، ثقافة مجتمع، وباعتبار أنه إذا غاب التسامح، حضر التعصب والعنف والتكفير والتطرف والإقصاء.

* مررت قبل أيام، أمام ديوان صاحب السمو ولي عهد أبوظبي، ونظرت متأملاً، تسع منحوتات من البرونز، صممها فنان فرنسي من أصل جزائري (جاي فيرير) قبل نحو عقد من الزمان، وغرسها أمام الديوان، من مدخله، وتجسد حروفها التسعة باللغة الإنجليزية حروف «التسامح» بعنى الوئام والتآخي والحكمة والسلام.

– زُرعت هذه المنحوتات، قبل أن تنتشر شرور التعصب والإرهاب والكراهية في المنطقة العربية، وكأني بصانع القرار يستشرف الغد، أو هذه اللحظات العصيبة التي يعيشها العالم.

– شكلت هذه المنحوتات، خطاباً داعياً لتفعيل قيم التسامح، ونشرها، والتربية عليها، ولتصبح جزءاً من هوية المجتمع وثقافته، ولتذكرنا دوماً، بأن جوهر الأديان وروح الإنسانية، هو احترام الاختلاف، والالتزام بمبادئ العدل والإنصاف والحوار، وتنمية قدرات الجيل الطالع على تحمل الرأي الآخر، والصبر على مواقف أو أفكار قد لا نوافق عليها أو نحبها.

– تأملت هذه المنحوتات طويلاً.. وهمست في نفسي: «إن فرص النجاح ما زالت ممكنة».

«ولو شاء ربك، لآمن من في الأرض كلهم جميعاً»، صدق الله العظيم.

المصدر: الخليج