فواغي القاسمي
فواغي القاسمي
شاعرة وكاتبة مسرحية من دولة الإمارات العربية المتحدة

التقديس المتأرجح بين اللاهوت و الناسوت

آراء

المقدس صفة تضفى على المعنى أو الشيء لتخرجه من نقد الواقع إلى الاستسلام لمشيئته و قدرته و تنزهه عن المساس به من قبل من هم أقل منزلة و قدرة. تلك القدسية نقرأها في الأساطير البابلية واليونانية و الفرعونية و ما سبقها أو تلاها من حضارات أيضا هي صفة تخلع على الآلهة سواء كانت رمزا أو تمثالا أو حتى حيوانا أو بشرا – أكسبها الكهنة تلك القدرة التي كانت تسيّر بها الناس و توجه بها الفكر الجمعي في إطاعة الملك / الآلهة و تكسّب كهنة المعبد الذين كانوا يعتبرون بطانة ذلك الملك/الآلهة. و في المسيحية أصبح الأمر شائك في التمييز بين لاهوت عيسى و ناسوته حيث اعتبر أنهالآب(الرب) – اللاهوت الذي تمثل في صيغة الإبن – الناسوت الخاضع لمشيئة اللاهوت.و تجسدت طاعته في الصلب حتى الموت معتمدين على قول لعيسى عليه السلام حين قال (أنا و الآب واحد) ما يعني وحدانية الجوهر في الطبيعة اللاهوتية.

و حين أتى الإسلام حرر الفكر من هذا المعتقد بما ورد في آياته بأن الشرك لأمر عظيم و كفر كل من أعتقد بأحد أنه مشارك للإله في قدرته و مشيئته فما الرسل سوى بشر أرسلهم الله للهداية و حرم تقديسهم بوضعهم في منزلة الربوبية العليا ومقام الإله الواحد الأحد. و في العهد العباسي بدأت تظهر الطرق الدينية المختلفة و الاجتهادات في التفسير العقلي لمنطق الدين و لعل أهم تلك الطرق هي الصوفية التي أعادت استخدام لفظي اللاهوت و الناسوت و لكنها وضعتهما في المسار الصحيح حين يرى الصوفي أن الناسوت هو الأغلال التي تكبل الروح من الاتصال باللاهوت فرأى الفناء هو الطريقة الوحيدة للتخلص منه و هو ما يفسر ذهاب المتصوفة في الغيبوبة الجسدية أثناء التعبد بتخلصهم من الأثر المادي و استغراق المريد في لذة الوجد للوصل الأسمى.

في عصرنا هذا نرى أن صفة التقديس أو المقدس أو صفة اللاهوت بدأت تأخذ بعدا تلقائيا في المجتمعات العربية التي طهّرها الدين من الشرك و لكن بصفة معاصرة تمثلت بين الحاكم و المحكوم . فهذه الشعوب التي تم غسيل أدمغتها على مر العصور ترى الحاكم نصف آلهة و ربما يقدس من حيث الولاء و الطاعة حتى يكاد يُرى آلهة بالمعنى شبه الكامل . هذه الشعوب ترى في شخص الحاكم ركيزة الكون التي لولاها لاختلت موازين الكرة الأرضية و صاحب الحق و المشيئة فيها فهو منزه عن النقد، متعال عن الإرشاد، فوق مستوى المساءلة، لكأنه يعيد مقالة الفرعون و ما أريكم إلا ما أرى و أصبح الفرد في هذه المجتمعات مسيّر تلقائيا في الإيمان بهذه المقولة الشركية لعقود من الزمن و يتضح ذلك عند مس الحاكم بنقد ما تظهر الأصوات الناعقة من كل حد وصوب ترمي ذلك الناقد بالخروج على ولي الأمر و كأنه خروج عن الدين و الكفر بالله.

و بقي الحال كذلك حتى بدْء تفتُّق زهور الربيع العربي حين تمكن فتية آمنوا بوطنهم و حريتهم من كسر هذا (التابو) الذي أعاد عصر الفرعون و خلع صفة اللاهوت( المشيئة والقدرة) على الناسوت( المسيّر بأمر تلك المشيئة) ليصبح المزج بين الصفتين في شخص الحاكم أمرا يصعب الفصل فيه. فخرجت الجموع إلى الساحات و الميادين تخلع عنه ذاك الرداء الذي طاب له الاحتماء به ليمكنه من السيطرة على الشعب و يجرّم كل من تسوّل له نفسه بالسؤال التقليدي : من أين لك هذا؟ هذا الدالة على التملك بالمعنيين المعنوي و المادي .

إذا… هل نستطيع أن نقول أننا في عصر حدثت فيه انتكاسة إيمانية و عودة للجاهلية الأولى ؟ هل أصبح الدين الذي نسمع و نقرأ ونؤمن به هو مسوغ قانوني لتمكين الشركية العصرية في ظلال غياب الوعي الجمعي الذي مورس قصدا على هذه الشعوب بما يشبه غسيل الأدمغة؟ لماذا يحرص علماء عصرنا اليوم على إضفاء صفة الربوبية على الحاكم فيعتبر الخروج عليه بمنزلة الكفر الذي يوجب قتل ( الخوارج) و هم في الوقت ذاته يباركون له كل (خروج) عن الدين بصمتهم المطبق على جميع ممارساته – هل أصبحنا نعيش عصر الفرعون و كهنة المعبد من جديد . أما و قد بدء القرن الواحد و العشرون فلا يليق بالشعوب العربية أن تعيش هذه الانتكاسة الفكرية و العقدية و على الحاكم العربي أن يعي أنه لم يصل لمنزلة أحد التابعين لنبي مخلوق فكيف يضع نفسه في مقام خالق صاحب مشيئة و قدرة .. و كم هو الطريق طويل لإعادة برمجة تلك العقول حتى تعود إلى مسارها الصحيح فترى اللاهوت لاهوتا أوحد و أن الناسوت أيا كانت مكانته متساوٍ في الحق و الواجب – هذه هي الشريعة الحق و غيرها باطل بحق إيماننا و فكرنا و طبيعة عصرنا. .

خاص بـــ (الهتلان بوست)