التنوير.. لعلهم يرشدون

آراء

يعيش العرب أزمة مصطلحات منذ أمد بعيد، ولدَت عُسراً في التعامل مع مفهوم «التنوير»، صاحبه حذّر فطري نشأ فينا، وردة فعل اعتيادية بعد عقود من المصطلحات التي أوردتنا المهالك، وبعيداً عن هذه الهواجس؛ يقدم التنوير نفسه بأنه لحظة وعي شخصية، وتجربة ذهنية يكون الفرد فيها عاقلاً بثقافته، وعارفاً بواقعه، وقادراً على اتخاذ قرارته الحياتية، ليغدو «التنوير» بمثابة المصل المضاد لمرض يغشى العيون فيفقدها القدرة على الإبصار والتمييز.

مرّ تاريخنا العربي الإسلامي بلحظات تنويرية عظيمة صنعت الفارق، وأذكر منها المقولة الخالدة لأبوبكر الصديق، حال وفاة الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: «من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت»، قالها رضي الله عنه في جمع كبير من صحابة كرام، أهل منزلة وعلم، وبهذا طوى صفحة وفتح صفحة أخرى في تاريخ هذه الأمة.

أعني في سِوْقِ هذا المثل أن حضارتنا عرفت التنوير قروناً طويلة، قبل أن تخرج أوروبا من ظلامها، وقبل أن يُعرّف إيمانويل كانط التنوير بأنه الوعي الراشد للإنسان، والمتتبع لتاريخ التنوير الأوروبي سيجد أنه مر بسلسة طويلة من النجاحات، كما تعثر في إخفاقات، نتيجة كونه خياراً فردياً، وحالة نضوج عقلاني متقدم.

ومن دون مواربة، فمأزق التنوير يكمن في استحالة تغيير قناعات الفرد ما لم يكن مشحوناً بالتساؤلات حول الحقيقة، مبادراً نحوها، حريصاً على أن يكون مؤمناً بقناعة ويقين، لا مقلداً يردد ما يُملَى عليه، يركن إلى ما يقال له إنها ثوابت، ويدافع عما لُقن وحُفظ بلا تمييز، ولا شك أن من أصعب الأمور أن يفتح الإنسان ذو العقل المُبرمج منافذ الإدراك والإحاطة والتفكير ليحوز الوعي.

أكاد أجزم أن العالم بأسره اليوم في أمسّ ما يكون للتنوير، فالمادية تسيطر على الإنسان الحديث، واختلال موازين النظام العالمي وما خلفه من مآسٍ أصابت شعوباً وشردتها، والنزعة نحو أدوات كالديمقراطية وأخواتها، على حساب منظومة القيم والمبادئ والحقوق الإنسانية.

يظن البعض أن التنوير محاكاة للأفكار الغربية الساقطة من سياقها التاريخي والثقافي، وللمُتهم أن يسأل كيف يمكن أن يستنسخ الوعي؟! وهل هو قابل حقاً لأن يعلّب ويوزع على الناس! ويتهمه آخرون بأنه عداء للدين تحت مسوّغ العقلانية الرافضة للغيبيات، ولو عقل هؤلاء غاية التنوير لوجدوه الوعي المستقل الذي لا ينجر خلف الأفكار ويتشدد لها، والفهم القويم الذي يُخضع الفكرة للفحص والاختبار، وهو العقل الذي على بينه من دينه، والبصيرة الروحانية التي تنشد الحقيقة وتتجاوز حجب الهوى وسلطة الجموع الغافلة، ومن دونه قد ينزلق المتعلمون من أطباء ومهندسين نحو التشدد والتطرف، لنرى منهم قيادات في جماعات إرهابية، مثل هؤلاء حازوا العلم وغاب عنهم الوعي المستنير.

وأخيراً، أرى شخصياً أن فرصة ذهبية تنتظر دولة الإمارات في مشروعاتها التنويرية، قوَامُ نجاحها يتوارى خلف نموذجها الفريد، وإعلامها الفاعل، لتستحق الإمارات بجدارة أن تكون سراج العالم الوهاج وعياً وفكراً وثقافة.

المصدر: الإمارات اليوم