الحرية عند أهل الفقه

آراء

للوهلة الأولى يتخيل الناس أن القمع المباشر هو الناقض الوحيد للحرية. 

بعبارة أخرى، فأنت تفقد حريتك حين يتسلط عليك من هو أقوى منك، فيحرمك من فعل ما تريد. هذا يشبه تماماً أن يدفعك أحدهم إلى داخل غرفة، ثم يقفل الباب عليك.

لا شك أن هذا المثال تجسيد واضح لنقض الحرية. بل قد يكون المعنى الأول الذي يتبادر للذهن. لأن المعاناة النفسية أو الذهنية التي يختبرها الإنسان، تترجم على شكل شعور بالإذلال أو المهانة من جهة، والمسكنة أو التصاغر من جهة ثانية.

في مثل هذه الحالة، يصعب القطع بالعنصر الأكثر تأثيراً في نفس الإنسان: هل هو فقدانه لحريته، أم هو شعوره بالمهانة أم بالصغار؟ ونعلم أن كلاً من هذه الحالات مختلف عن الآخر، في طبيعته ومخرجاته.

أردت بالشرح السابق الإجابة عن سؤال: لماذا لا يشعر معظم الناس بافتقارهم للحرية، إلا حين يواجهون قهراً مادياً، أو عنفاً صريحاً (مثل الأسر أو الحصر)؟ ومحور مجادلتي أن شعور الفرد في مثل هذه الحال، مركز على الإذلال أو المسكنة، وليس فقدان الحرية. لكنه يقرنه بتجسيد مادي يتمثل في حالة الأسر، التي تساوي انعدام الحرية.

يميل البشر بطبعهم إلى تصور المعاني المجردة أو المشاعر الداخلية، في أشكال مادية، يظنونها مطابقة لما في نفوسهم. لأن الاحتفاظ بالمعاني والمشاعر في حالة التجريد المطلق، يحتاج لطاقة ذهنية وروحية كبيرة جداً، لا يطيقها غالبية الناس.

– ما أهمية هذا الكلام، وما الفائدة منه؟

لقد حاولت – مثل غيري – استنباط مفهوم للحرية من تراثنا الإسلامي، قابل للمقارنة بنظيره المتعارف في الفلسفة السياسية المعاصرة. فما وجدت تصويراً واضحاً للفكرة، سوى ما ينصرف إلى معنيين: معنى الأسر/ السجن، ومعنى الرق/ العبودية.

وبدا لي أن مبدأ الحرية، رغم وضوح مفهومه وتعدد تطبيقاته في القرآن الكريم، لم ينل حظاً من الاهتمام بين مفسري القرآن وأهل العلم الشرعي؛ القدامى والمحدثين. ولهذا السبب ربما، لم يتحول إلى مبدأ راسخ في ثقافتنا العامة، لا سيما الجزء الموروث منها، وهو الأعظم والأكثر تأثيراً.

لتوضيح المسألة سوف أضرب مثالاً بواحد من المعاني، التي ينصرف إليها مفهوم الحرية في الفلسفة الحديثة. وهو الحرية في معنى تعدد الخيارات المتاحة أمام الإنسان.

الفقه هو أبرز علوم الشريعة، ليس فقط من حيث عدد المشتغلين به في الوسط الديني، بل أيضاً لأنه الأكثر التصاقاً بحياة الناس اليومية. ولهذا فليس مستغرباً أن تجد الفهم الفقهي للدين، هو السائد في مجامع العلم الشرعي وبين عامة الناس على حد سواء. وهذا ما يجعله النموذج الثابت للمقارنة بين الإسلام والأديان الأخرى، أو بينه وبين القانون الوضعي.

حيثما بحثت في علم الفقه ستجد أن مفهوم الحرية مفقود أو منتقص. لا يعترف الفقه بالتنوع الديني والاجتماعي، ولا يعترف بحق الاختيار، كما لا يقر بحرية الاعتقاد والتعبير. ولهذا تجد أن النخبة الدينية، تنكر دون تحفظ، مشروعية الإفهام والتفسيرات والاجتهادات الجديدة للنص الديني. لأنها تتعارض مع ما يرونه صورة وحيدة للحق. بعبارة أخرى فإن الملتزمين بتقاليد المدرسة الفقهية ينكرون الحرية في الجوهر. لكنهم لا يرون هذا الإنكار معارضاً لروح الدين والقيم العليا. لأن مفهوم الحرية السائد بينهم، لا يساوي تعدد الخيارات. ولأن نقض الحرية المتعارف عندهم ينصرف إلى صورة وحيدة هي الإذلال والقهر المادي.

المصدر: الشرق الأوسط