الحقوق والحريات على مقاس «التدين الفطري»… الحرب الشبابيّة المقبلة في مصر

آراء

خمس سنوات مرت على المواجهة الصارخة الأولى بين الشباب المصري وبواطن المجتمع المحمّلة بخلطة الفخفخينا السحرية، حيث التديين القابض على السياسة والحياة العامة من تعليم وفن واقتصاد. وقبلها أكثر من ثلاثة عقود، هرمت خلالها ونضجت ووُلِدت أجيال أخرى من رحم انسحاب الدولة وترك الساحة شبه كاملة لجماعات دينية أقامت دولة موازية كاملة بخدماتها وقواعدها وقوانينها، فدانت لها أجيال شابة بالولاء الكامل. وبينهما عقد من الزمان تغلغلت في سنواته ثقافة الحقوق والحريات، وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية بمعانيها السائدة دولياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها إلى تركيبة أجيال شابة وجدت نفسها في ما بعد إما عاجزة عن تطبيق الجانب النظري من الحقوق أو رافضة هذا التطبيق لأنه يتعارض مع ما نشأت عليه دينياً.

الدين – أو بالأحرى التديين – بات إحدى أبرز مشكلات الشباب المصري التي سلطت عليها ثورة كانون الثاني (يناير) أضواء كاشفة، معرية تفاصيلها الدقيقة وكاشفة زواياها السرية التي ظن كثر أنها مستمرة مع ستر عوراتها ومن دون كشف سيئاتها. وأسوء ما يعتري فئة عريضة من الشباب المصري هذه الأونة، الفصل التام بين الحلال الذي يحبونه والحرام الذي لا يمانعون في اجتنابه، والتحليل الذي يصنعونه وفق مقاييسهم، والتحريم الذي يسنون قواعده وفق الحاجة وامتثالاً للرغبة.

مجموعة شابة من مصوري قناة مصرية جلست في صالة الوصول في مطار القاهرة الدولي، تنتظر وصول عدد من اللاعبين واللاعبات المصريين الذين شاركوا في أولمبياد ريو دي جانيرو لتصويرهم وإعداد التقارير الخبرية اللازمة. لكن المجموعة الشابة لم تجد أفضل من التمعّن في مقاييس أجساد الفتيات والسيدات الموجودات في الصالة، ومن بينهن بعض اللاعبات أنفسهن مع تبادل التعليقات الجنسية المسفة. وبسؤال أحدهم عما إذا كان يشعر بأن سلوكه هذا هو اعتداء على حرية الإناث الموجودات في المكان، نفى ذلك جملة وتفصيلاً، مؤكداً أنها حريته الشخصية أن يقول ما يود قوله طالما لم يتطاول عليهن، مضيفاً «أن الفتاة أو السيدة طالما ارتضت الوجود في الفضاء العام، فإن ذلك يعني أيضاً قبولها كل ما تتعرض له، لا سيما إذا كانت تمارس رياضة غير لائقة مثل السباحة أو الباليه المائي مثلاً». وكي تكتمل الصورة الهزلية، ما أن أذن المؤذن لصلاة الفجر حتى هرع إلى الزاوية المقامة في داخل المطار ليصلي وعلامات الورع الكامل بادية على وجهه.

الوجه الشبابي للشيزوفرينيا الدينية والحياة المعاصرة ليس وليد الأمس، بل هو نتاج تراكمات سنوات عدة أدت إلى خروج أجيال جديدة قادرة على الفصل التام بين الدين بمظاهره والحياة بقواعدها الأخلاقية والسلوكية التي لا تمت للدين بصلة، لكنه فصل أقرب ما يكون إلى الخدعة.

منظومة الحقوق والحريات التي أصبحت مكوناتها الجاذبة معروفة لدى فئات الشباب المختلفة في السنوات القليلة التي سبقت ثورة يناير، وفي شكل متزايد في السنوات التي تلتها، كثيراً ما تجد نفسها واقعة بين شقى رحى شبابيتين. فمن جهة، أولئك الذين يؤمنون بمنظومة الحقوق والحريات كاملة من دون شماعات الخصوصيات الثقافية أو حجج الاستثناءات الدينية يجدون أنفسهم في مواجهة حادة مع أقرانهم ممن يؤمنون الإيمان نفسه بالمنظومة الحقوقية، شرط أن تكون مقتصرة على ملّتهم وقاصرة على أبناء جلدتهم. وكل ما أو من عدا ذلك، فواجبهم يحتم عليهم دعوته إما باللين أو بالشدة حتى يكون مؤهلاً للتمتع بالمنظومة الحقوقية نفسها.

جدل حام ونقاش عنيف اندلعا بين شاب وزميلته في الجامعة. الأول يعرف بين أقرانه بـ «الملتزم»، فهو محافظ دينياً ومعروف بمواقفه الداعمة لأنظمة ســـياسية ترفع راية «الخلافة الإسلامية» في شكل مباشر أو مستتر، وغالباً ما يؤكد إيمانه العميق بحق الغير وحريته طالما امتثل للقواعد التي تفرضها الغالبية (في هذه الحالة المســـلمون السنة).

والثانية طالبة معروفة بتحررها الفكري والثقافي وإيمانها المتجذر بالحقوق والحريات. وعلى رغم أنها لا ترتدي الحجاب، إلا أنها كانت من أعتى المدافعات عن حق الطالبات المنقبات في دخول الجامعات «لأن الملابس حرية شخصية». وسبب الاحتقان هو ملابس ارتدتها الفتاة اعتبرها زميلها «غير لائقة» و»تخاصم الخصوصية الثقافية لمصر والقواعد الدينية للإسلام».

ويجد ذلك الفصام بين الحقوق والواجبات، والحريات والحدود نفسه هذه الأيام في خانة قاتمة ضاغطة. فالشباب والشابات المنتمون الى التيارات والأيديولوجيات المدنية المنفتحة المتحررة، هم الأكثر دفاعاً عن أبناء التيارات الدينية من باب الحقوق والحريات، لكنهم يجدون أنفسهم موصومين بـ «العلمانية» أو «التشبه بالغرب» أو «سوء السمعة» أو «فساد الأخلاق» لأنهم لا يمتثلون لمعايير الإسلاميين الشكلية وأحياناً السياسية. فالحقوق والحريات غير القابلة للتجزئة أو الاستثناءات أو الخضوع للخصوصيات تجد حائطاً سداً لدى الشباب والشابات ممن يرون في وجود مسجد في كل كلية جامعية، ومحطة باص، ومطعم عام، أو حتمية الفصل بين الشباب والشابات في فصول العلم وأماكن الترفيه، أو عدم جواز ممارسة الفتيات لرياضات تتنافى والقواعد الدينية، أو حتى خروجها من بيتها من دون الالتزام بـ «الزي الإسلامي» وغيرها مما يصفونه بـ «التدين الفطري» الذي يولد به الشاب المسلم والشابة المسلمة.

وعلى رغم هذه التناقضات التي تجمع بين الأضداد، فإن الشباب المنتمين إليها كثيراً ما يلتقون على المنصة السياسية نفسها، حيث معارضة النظام القائم، أو النقمة عليه، أو الرغبة في تغييره. صحيح أن الرغبات تتناقض، والأهداف تتصارع، لكن ذاكرة السمكة وعنفوان الفيل كثيراً ما تدفع بهما إلى خانة واحدة لا يكتب لها البقاء طويلاً. فالحقوق والحريات التي ينادي بها هؤلاء تشمل المختلفين معهم، لكن حقوق أولئك وحرياتهم تستثني كل من لا يعلن التوبة ويتحول صورة طبقة الأصل عنه.

وبين الفئتين قطاعات شبابية أيضاً تحاول جاهدة الإمساك بالعصا من المنتصف، لكنها كثيراً ما تنقصف أو تلتوي أو تنحني. فالتديين يجد نفسه في حرب مصيرية مع الحقوق، والانتماء الى الأمة الدينية يناطح الانتماء الى الوطن، والمواطنة تجد نفسها في صراع من أجل البقاء تحت سطوة الدين، وكأن هذا ينفي ذاك، أو يهدده.

المصدر: الحياة