الخليج بين “جنة” الإسلاميين و “نار” الليبراليين

آراء

يتحدث بعض الكتاب الخليجيين في التغيّرات المحتملة في المنطقة بعد الثورات العربية مبرزين اختلاف الظروف والمسببات التي أدّت إلى اشتعال الثورات في البلاد العربية (تونس، ليبيا، مصر، اليمن، سوريا) عنها في دول الخليج. وكذلك وجود الشرعيات الحاكمة، التي توافق عليها الشعب. كما يُعللون قوة هذه الشرعيات لأنها صانت خيارات المواطنين، ووفرت لهم مستلزمات الحياة الأساسية، بل والكماليات في بعض الدول. ولذلك، فإن هؤلاء الكتاب يرفضون حصول النموذج العربي في المنطقة، ويرون أن استمرار واقع الحال الهادئ والآمن والكريم أفضل من تغيّرات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وخصوصاً مع وصول “جماعات” إلى الحكم في بعض البلدان العربية لا تتصالح مع التاريخ، وقد تبدّلُ أوجهَ الحياة بعيداً عن التوجه الديمقراطي الذي أملتهُ الثورات العربية، وبتكريس “مرجعيات” دينية لا تؤمن بالديمقراطية قدر إيمانها بأجندتها الخاصة، التي لا تمثل بالضرورة كل فئات الشعب.

أما بعض المفكرين الغربيين فيرون أن التغيّرات في العالم العربي إنما جاءت على أسسٍ محلية بحتة، وأن الثورات العربية لا تتشابه. وبالتالي فإن منطقة الخليج لها خصوصيتها، من حيث الدولة الوطنية، والولاء. كما يرى هؤلاء الغربيون أن البلدان العربية، كلما تدنى فيها دخل الفرد وتدنت مستويات الخدمات الأساسية وفرص العمل، كان ذلك أقرب إلى المطالبات والاحتقانات الشعبية، والعكس أيضاً صحيح.
كما يلاحظون أن آثار الثورات العربية على المنطقة قد تمحورت حول زيادة جرعات الحريات والتأكيد على مبادئ حقوق الإنسان.

وبعض المفكرين في الخليج يرون أن بروز مطالبات ليبرالية يضغط على الأوضاع القائمة ويخلق حالة تجاذب غير مبررة وليست ضرورية. كما أنها تؤثر سلباً في الاستقرار، خصوصاً تلك المطالبات -التي يدّعي البعض- أنها مدعومة من دول خارجية ومنظمات دولية غير حكومية. ويتهمون الليبراليين بأنهم يسعون إلى قلب “طاولة القيم السياسية”، والتوافقية التاريخية بحيث يُسمح لهم بانتقاد الحكم -دون رقابة- بدعوى أن القيم الليبرالية تسمح لهم بذلك! ويرى هؤلاء المفكرون أن وصول الإسلام السياسي إلى المنطقة يعتبر هاجساً مؤرقاً. لأن الإسلام السياسي يريد الانقضاض على الحكم، وتأسيس الخلافة الإسلامية من فاس وحتى جاكرتا، وهم -أصحاب الإسلام السياسي- منظمون أكثر من غيرهم. وقد جاء تغيّرُ النظام في مصر كي يدعم هذا التوجه -الذي أوجد شروخاً بين الإسلاميين وغيرهم من الفئات التي تمثل التيارات الفكرية الأخرى، كما أنه أجّجَ الطائفية ليس في مصر فقط، بل وفي دول عربية أخرى، وذلك يهدد دولة القانون والمؤسسات، ويدعم الاحتماء بـ”المرشد” على غرار النموذج الإيراني.

إذن تعيش منطقة الخليج اليوم متأثرة بين تيارين (أحلاهما مرُّ) للأطراف المختلفة، فاحتماء بعض الأنظمة بالتيارات الإسلامية لكبح جماح التيار الليبرالي بعد الحرب الباردة ووقف الزحف الشيوعي على المنطقة لم يؤت ثمارهُ المرجوه، إذ أخذت تلك التيارات مسارات لم تُسعد دول المنطقة مثل التورط في الأعمال الإرهابية والتفجيرات التي طالت بعض مدن المنطقة، وكذلك الزج بأبناء المنطقة في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كما حدث في الشيشان وأفغانستان والعراق. وصار أن تمت محاصرة التيار الليبرالي عبر الإسلام السياسي وأذرعه الإعلامية الطولى، وتم تصويره على أنه يريد الانقضاض على الحكم، وتقويض دعائم الدولة الوطنية وزرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، معتمداً على الأفكار الغربية، التي تعارض الإسلام، ما يمكن أن يبرر “التكفير” و”الإلحاد” الذي يُوسم به الليبراليون! في وقت يتم فيه تجاهل لُبِّ وجوهر الدعوات الليبرالية مثل إرساء الحكم الرشيد، وقيام مؤسسات المجتمع المدني، وضمان الحريات والحقوق الفردية والمشاركة السياسية! ولأن معظم منتسبي أو مؤيدي الرؤى الليبرالية من المتنورين والتكنوقراط -غير الساعين أو الداعين لتغيير الأنظمة أو تبديل التاريخ التقليدي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، اللهم إلا في تطوير بعض القوانين العامة التي ينبغي أن تناسب العصر- فإن التيارات الرجعية وبعضها يلتحف عباءة الدين، ترى أن الخروج على مبدأ الجماعة “كفر” يستوجبُ الحرب والمقاومة! وهكذا تصبح القضية سباقاً نحو الزعامة أو الفوز بالحكم وإن كانت غير واقعية أو صعبة التحقق. ويرتهن الأمر في معادلة صعبة بين “جنة” الإسلاميين أو “نار” الليبراليين.

إننا نعتقد أن استمرار العلاقة الهادئة والآمنة بين الأنظمة والشعوب في المنطقة من الأمور الأساسية لحياة أكثر استقراراً وبُعداً عن المغامرات! كما أننا لا نعتقد أن توسيع هامش الحريات، وتحديث نظم الإدارة، وتعديل بعض القوانين التي قد تكون متعارضة مع المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان -وأهمها حرية التعبير- سيؤثر على العلاقة تلك. بل نحن واثقون من أن تحقيق هذه المطالب -غير الصعبة- لا يتعارض مع توجه دول الخليج نحو التصديق على المواثيق الدولية ذات العلاقة، كما تعلنها الدول نفسها. وفي الوقت نفسه، فإن الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، أصبح هاجس هذه الدول، وأصبحت الدول تعقدُ له مؤتمرات وتؤلف له لجاناً متخصصة. ولذا فإننا لا نرى أي تعارض مع المطالبات التطويرية وما يجري داخل أروقة الحكم في المنطقة، بل إن ذلك يزيد من التلاحم الوطني والاستقرار والتقدير الدولي لهذه الدول. ولاشك أن الذين يؤمنون بالتغيّرات الراديكالية السريعة في المنطقة يراهنون على أحصنة خاسرة.

وتبقى نقطة أخيرة، إننا نُحذر من ثقافة “التخوين” واعتبار أية مطالبة بالتحديث والتطوير على أنها مُسيّسة من الخارج، أو أن القائمين عليها هم حفنة من “الأشرار” الذين يحاولون زعزعة الاستقرار! ذلك أن الاستقرار موجود ولله الحمد، ومَن تثبت عليه مخالفة القانون بالأدلة فإن القضاء النزيه موجود. أما أن يتم التضييق على كاتب أو مغرد لأنه انتقد برامج التلفزيون أو مشروعات البلدية أو سوء الخدمات الصحية أو القوانين الخاصة بالنشر، فهذا لا يتناسب والدولة العصرية، ويبث الشقاق بين أبناء البلد الواحد ويجعل البلد محل انتقاد من المؤسسات الدولية والحقوقية.

نحن بخير، ومحسودون، وعلينا دوماً اللجوء إلى حوار العقل فيما يشجُرُ بيننا، بما يحفظ مجتمعاتنا ومؤسساتنا ويُجنبنا مخاطر “المغامرات” المدمّرة.

المصدر: جريدة الاتحاد