الرواية والمستقبل

آراء

«الأدب فن الزمان وليس المكان» أنريكي أندرسون أمبرت..

النص الروائي نص ثقافي مدهش، من خلال فنياته وجمالياته نستطيع استيضاح الفكرة التي تأسست من أجلها، وهو عبارة عن كبسولة تختزل للقارئ حياة متعددة لبشر وشخصيات مختلفة في فترة زمنية محددة يتخللها قضايا وإشكالات تخص الماضي والحاضر، وقد تستقري المستقبل لذلك المجتمع الذي تدور أحداثها فيه. فالرواية لها قدرة على وصف المشهد الإنساني والتعبير عن المكان والإحساس بالزمن، ولأن الرواية على حد تعبير بول ريكور هي «كينونة زمنية يسجل من خلالها الكاتب زمنه النفسي في الزمن الكوني». كان المستقبل هو زمن الانتظار والاحتمال، وعالم الغيبيات التي تقلق الإنسان، وهو زمن الأمل واليأس في نفس الوقت، وهو زمن مهم لبناء توقعات واستشراف القادم من المستقبل. والسؤال الذي لطالما شغلني هو: أين الرواية السعودية من استشراف المستقبل، وما هو دورها؟، نحن نعلم أن استشراف المستقبل من اختصاص قصص الخيال العلمي، والتكنولوجيا المتقدمة تحفز عقل الكاتب لوجود معطيات معرفية وممارسات تجريبية، ونظراً لتخلفنا العلمي والتكنولوجي أصبح الاستشراف يقتصر على «ثنائية السعادة والتعاسة « كما يقول الكاتب محمد ولد سالم.

والمتتبع لتاريخ الأدب السعودي والرواية بالذات سيلحظ أنها جاءت من رحم تحول سياسي واجتماعي، «فالتحول السياسي هو تكوين الدولة السعودية في الثلاثينات من القرن العشرين، أما الاجتماعي، فهو فكرة الوحدة الوطنية وتطبيقاتها والسعي إلى الاندماج الاجتماعي في سياق سياسي واحد» (د. حسن النعمي). والتحولات لم تقتصر على مواكبة التحولات التاريخية والسياسية لظهور المملكة، بل صاحبها تغيرات على مستوى البناء الفني، ونوعية الموضوعات وكيفية تقديمها وجرأة طرحها؛ حيث تعكس الرواية في أي مجتمع خباياه، وتكتب تاريخه وتصور ثقافته، فالرواية ابنة التجارب الاجتماعية وقد عرفها (عبدالفتاح عثمان) بأنها: «ما هي إلا حكاية لها صياغة وحبكة فنية، بداخلها أحداث وأبطال أو شخوص ومتن، تقدم بطريقة فيها سبك وحبك، ويلعب منطق السببية فيها دورًا مهمًا للوصول إلى خاتمة». إن العلاقة ما بين المؤلف والقارئ، الإنتاج والتلقي، في الرواية تقع ضمن مساحة تبنيها التجارب والسلوكيات الواقعية ثم تثريها عوالم الممكن، ففي الرواية نحن نتشوق لمعرفة ماذا سيحصل لنا، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ذلك إلاَّ من خلال ما وقع في الواقع، فعوالم الرواية تخلصنا من إكراهات الواقع وأنظمته المملة وتخرج بنا إلى حيز التغيير والدهشة وعدم الرتابة، إنها بمثابة عملية هروب من القلق الذي نكابده من الحياة إلى عوالم أكثر انفتاحاً وسهولة، فهي تصف الحياة التي نريدها وتعكس أفكارنا اللطيفة والجامحة، الشريرة والخيرة، وكل ما يخلو من تعقيدات الواقع الملزمين بتطبيق أنظمته.

إذاً نحن نتشبث بالرواية ونؤكد أهميتها في محاولة يائسة للإمساك بهذا العالم الفوضوي التنظيم، ولكن الزمن الفعلي يفشل في التقاطاته لكل جوانب حياتنا ويومياتنا بؤسنا، وشقاؤنا، فرحنا العذب، وسعادتنا القلقة، وهذا النص التخيلي لا يمكن أن يكون مستقلاً إلاَّ إذا كان له بناؤه الداخلي وأنظمته وقوانينه واستشرافاته المستقبلية؛ وأي عمل روائي له سياقات ورموز وصور ودلالات، لذلك نحتاج إلى العلم والتكنولوجيا ومجتمع مجرب من أجل أن نتوقف عن ثنائية السعادة والتعاسة إلى كتابة روايات تتحدث عن شكل الحياة بعد سنوات مديدة.

المصدر: الرياض