عبدالسلام الوايل
عبدالسلام الوايل
كاتب و أكاديمي سعودي

السياحة والحرية بين الباحة وإسطنبول

آراء

مع اعتدال درجات الحرارة وسعي الشمس نحو الأفق الغربي، تتدفق العائلات السعودية إلى منطقة المسجد الأزرق بوسط إسطنبول. إنها المنطقة التاريخية من المدينة، إنها مركز القسطنطينية أولا والآستانة لاحقا. في الجزء الجنوبي من الساحة الكبيرة يوجد مسجد أيا صوفيا، الذي كان مركز المسيحية لقرون ثم المسجد لاحقا وعلى طرفه الشرقي يقع قصر توب كابي الذي حكم منه سلاطين بني عثمان معظم العالم الإسلامي لمئات السنين. وفي الجهة الشمالية من الساحة ينتصب مسجد السلطان أحمد بقبابه الهائلة ومآذنه النحيفة، كما هو طابع العمارة العثمانية. في أسفل الجنوب الشرق من المسجد يمتد أراستا بازار التاريخي الذي يأتي على شكل ممر طويل تتقابل على جانبيه المحلات التي تبرز وجه تركيا/ الخلافة: ملابس السلاطين وأزياء الجواري وسجاجيد القصور الغابرة ومخطوطات علماء الإسلام ورسوم فنانيه.

كل إلتفاتة في هذا السوق تجعل ناظريك يقعان على علامة من الماضي الإمبراطوري لهذه البلاد. في نهاية السوق وبشكل مفاجئ، يبزغ مطعم أراستا الذي ينثر كراسيه وطاولته في الهواء الطلق في ساحة تطل عليها مآذن أياصوفيا والسلطان أحمد وتحيي أماسيه فرقة موسيقية تركية بسيطة مكونة من عازف ومطرب وراقص يؤدي رقصة الدراويش الصوفية التي تقوم على الدوران والثبات والتأمل. يتعهد المطعم بتقديم الدرويش بشكل يومي طوال العام. تؤدي الفرقة أغاني تركية وبعض الأغاني العربية، مسحة دينية تغلب على الأغاني التركية، حيث تتردد عبارات «يارسول الله، ماشاء الله…الخ».

في بعض الأحيان، ينشد المطرب أغنية «طلع البدر علينا». يقطع صوت الأذان عمل الفرقة التي تتوقف حين يبدأ المؤذنون. نعم المؤذنون، فهناك مسجدان عظيمان (أياصوفيا والسلطان أحمد) متجاوران. يبدأ مؤذن مسجد السلطان أحمد بالتكبيرتين ثم يتوقف معطيا المجال لمؤذن أياصوفيا لكي يبدأ هو الآخر الأذان بالتكبيرتين وهكذا يجري الأمر طوال الأذان بحيث لا تتداخل أصوات المؤذنين. لعلها المنطقة الوحيدة في العالم التي يمكن للمرء فيها أن يسمع أذانين منظمين ومرتبين للصلاة الواحدة.

الساحة الواسعة بين مسجدي أياصوفيا والسلطان أحمد رتبت لكي تكون موئلاً للمتعة والاسترخاء العائليين: الكراسي الطويلة، النافورة، الشارع المرصوف بالحجر، الباعة الجائلون يبيعون لعب الأطفال ويستعرضون مهاراتهم بها، باعة الشاي والفاكهة والمكسرات. رسامون يتناثرون على أطراف الساحة وفرق فنية تزور الساحة بين الفينة والأخرى فتجلب انتباه السائحين. في أحد الأماسي، نصبت فرقة موسيقية منصة تحت شجرة بلوط عملاقة وبدأ مطرب ومطربة يقدمان أغنياتهما. أخرج السائحون والمارة جوالاتهم لتصوير الفرقة. عدد لا بأس به من هؤلاء الذين يصورون كانوا سعوديين.

يتدفق السعوديون بكثافة على تركيا بشكل عام. تنقل جريدة الرياض ( بتاريخ 29/4/2012) عن مدير شركة الصرح للسياحة أن إقبال السعوديين على تركيا زاد في العامين الماضيين بنسبة 100%. قبل عامين، زار تركيا 85 ألف سائح، بحسب المستشار الثقافي في السفارة التركية بالرياض. وفي هذا الصيف مثلا، يوجد ثلاث رحلات يوميا من الرياض إلى إسطنبول، وهو أكثر من عدد الرحلات من الرياض إلى الباحة مثلا. وتمثل ظاهرة صدودنا نحن المواطنين عن السياحة الداخلية قضية مبهمة وغامضة دأبت على القراءة عنها على مدى الثلاثة عقود الماضية دون أن يتحسن وضع السياحة الداخلية بل إنه إذا استثنينا قطاع السياحة الدينية، يتدهور باستمرار. وأنقل عن جريدة الرياض في عددها الصادر بتاريخ 8/8/1433هـ التفاصيل التالية : «عدد رحلات السعوديين السائحين إلى الخارج بلغ 4.7 ملايين رحلة لقضاء العطلات أي ما يعادل 65.5٪ من إجمالي الرحلات… وأنفق هؤلاء السائحون ما يقارب 22.6 مليار ريال، إضافة إلى 6.2 مليارات ريال على تكاليف النقل الدولي لخارج البلاد بإجمالي قدره 28.8 مليار ريال».

ولو أعدت طرح السؤال المكرر منذ كنت مراهقا: لماذا يتدافع مواطنونا على السفر إلى الخارج وقت الإجازات فهل لي أن آتي بإجابة جديدة! أفضل التأمل على طرح الإجابات. السعوديون (ذكورا وإناثا) الذين شهدتهم في إسطنبول يسحبون جوالاتهم ليصوروا مستمتعين المطربة والمطرب التركيين وهما يقدمان أغانيهما في الهواء الطلق لم يكونوا مختلفين في السمت والشكل عن الصورة الشائعة عن السعوديين: نساء أغلبهن منقبات ومن لم تتنقب كانت محجبة، رجال بسكسوكاتهم، وبعضهم بلحى طويلة هم نفسهم الذين ربما لو سألتهم في نفس المكان والمنشط عن رأيهم في مقتل عبدالرحمن الحرفي وبتر ذراع زوجته وإيداع طفليه المستشفى جراء الجروح التي أصيبوا بها الأحد الماضي عند انقلاب سيارتهم الهاربة من مطاردة دوريتي الهيئة والأمن لهم بسبب تشغليهم المسجل على أناشيد طيور الجنة عندما كان الحرفي وأسرته الصغيرة في نزهة في متنزه الشكران في محافظة بلجرشي ، أقول لو سألت هؤلاء السياح عن رأيهم في هذه الحادثة ماذا كانت ستكون إجاباتهم؟

هل سيقولون بسبب هذه الثقافة، بسبب هذه العين المترصدة لكل خطوة (بما في ذلك رفع صوت المسجل على أناشيد أطفال هي أساسا أناشيد دينية)، بسبب حس المراقبة هذا قررنا أن تكون متعتنا في الخارج، إذ لا يستوي متعة سياحة ورقابة صارمة على السلوك بهذا الشكل.

وطبعا لا يمكن أن يأتي مثال أوفى على الرقابة الصارمة على السلوك من حادثة بلجرشي، فالمطاردة من قبل سيارتي الهيئة والدوريات للعائلة الهاربة على كوبري الحميد إنما كانت فقط بسبب رفع صوت المسجل وقام أفراد الدوريات والهيئة بالمطاردة رغم أن تعليمات مراجعهم تؤكد على منع المطاردة إلا بسبب موجب. ولا شك أن أسود الحسبة في متنزه الشكران رأوا أن رفع صوت المسجل على أناشيد طيور الجنة سبب موجب للمطاردة حتى الموت للشاب وزوجته وطفليه على المنحنيات الخطرة لكوبري الحميد.

أيها السائحون المتجمعون تحت شجرة بلوط ضخمة في ساحة المسجد الأزرق بإسطنبول، اسحبوا جوالاتكم وصوروا المطربة التركية الشابة واستمتعوا بنسمات الحرية ففي أصقاع أخرى من الأرض يفقد أطفال آباءهم بسبب الصوت المرتفع لأناشيد طيور الجنة.

المصدر: الشرق