أيمن العريشي
أيمن العريشي
كاتب وأكاديمي سعودي

القراءة من منظورهم !

آراء

لم تكد جارتي الايرلندية المسنة في المقعد المجاور لي في الطائرة تستوي على مقعدها إلا وأخرجت كتاباً من حقيبة يدها وبدأت في تقليب أولى صفحاته. وعلى مدى رحلة من أبوظبي إلى دبلن مدتها ثمان ساعات، كنت ألحظها وهي تغفو وتفيق  ثم تغفوا وتفيق مستمتعةً بالقراءة بين دفتي كتابها و تحت مصباح مقعدها ، وهكذا حتى شارفنا على الهبوط .

إن الحديث عن نهم غالبية شعوب الأرض نحو القراءة مقارنة بنا نحن العرب هو حديث كثر طرحه ولم يعد المجال متاحاً لمزيد من المقارنات على المدى المنظور ، لن آتي بجديد لو قارنت بالنسب والأرقام معدلات القراءة عند الفرد الأمريكي أو الياباني مثلا مقارنة بنظيراتها عند الفرد العربي .

لكن الحديث هو عن القراءة كسلوك حاضر لدى تلك الشعوب لا من باب الترف والتسلية بل كقناعة ذاتية بأهمية القراءة كفعل إنساني يُبقي على خلايا العقل في حالة حراك مستمر وتفكير دائم . لو أرادت تلك المرأة المسنة التسلية فأمامها شاشة وبين يديها جهاز تحكم يعج بالأفلام والمسلسلات والبرامج والأغاني وحتى الكتب الصوتية . لكن لا . هي تريد أن تقرأ و تقرأ و تقرأ.

كنت طيلة الرحلة أقلب بين القنوات التي أمامي على مضض ، لا أخفيكم أن غيرة أصابتني وأنا أشعر بأنني أضعت ثمان ساعات من الزمن سدىً بينما كانت المرأة بجانبي تقلب آخر صفحات كتابها عند بوابة المطار في دبلن .

لا أريد أن ألقي باللوم كله حول العزوف عن القراءة على مؤسسة واحدة من مؤسسات المجتمع فذلك ليس عدلاً ، لكنني أعتقد بأن المدرسة هي المسؤول الأول . ولو استرجعنا علاقتنا مع كتاب القراءة في الصف الأول الابتدائي وما يليه لعرفنا حجم المشكلة ، نحن نتعرف على القراءة كمقرر دراسي كأي مقرر آخر . كتاب وواجبات وأنشطة وتقييم تحصيلي في نهاية المطاف . بينما القراءة في حقيقة الأمر ليست مقرراً وحسب. هي سلوك يجب غرسه لا مادة يجب الاكتفاء بمجرد تدرسيها. إنها المفتاح الذهبي الذي يدلف من خلاله الجيل إلى بقية العلوم والمعارف لو أحسنا تقديم القراءة إلى ذلك الجيل بشكل محبب.

هنا في إيرلندا تقدم بعض مطاعم الوجبات السريعة كتباً مع كل وجبة أطفال بدلاً عن الألعاب ، وفي كل مطعم جلست فيه تقريباً يتم تقديم كراسات للتلوين تحمل قصصاً مصورة ، كما حرصت مديرة المدرسة الابتدائية المجاورة على تنبيهنا نحن أولياء الأمور و قبل شهرين من بداية العام الدراسي على أهمية تعويد أبنائنا على القراءة والاطلاع خلال الإجازة الصيفية.

وهكذا فنظرتنا نحو القراءة لابد أن تتغير ، معارض الكتاب التي تقام على امتداد عواصمنا العربية جديرة بالإشادة ومحفزة على القراءة ، لكننا قبل أن نحتفي بالقراءة لابد أن نعيش معها ونجعلها جزءاً من حياتنا. أن تصبح القراءة غايةً للمعرفة واكتساب الخبرات لا وسيلة للاستعراض أو التظاهر بالثقافة.  لابد أن نجعل منها أسلوب حياة لا مجرد مقرر دراسي . وأن نعامل الكتاب كصديق دائم لا كزائر مؤقت !