«الله يجيب ترامب»

آراء

الجمهوري والديموقراطي في السياسة الأميركية أشبه ما يكونان بصديقين حميمين، أحدهما العضلات والثاني المخ، الأول يضرب بلا رحمة حتى يسقطك أرضاً، فيما دور اللطيف الآخر هو القيام بواجب المواساة والتخفيف بالتربيت على كتفيك ولم شعث ملابسك بعد المصاب الكبير الذي ألم بك.

في العموم، كلا الرفيقين لا يتورع عن تحقيق المصلحة التي يسعى الفريقان في سبيل إنجاح تجربتها، ويبقى «الفتوة» أكثر وضوحاً وحسماً وبعداً عن النفاق، بل ربما افتقر إلى أبسط أبجديات اللباقة والدبلوماسية، هذا جورج بوش الابن يهمس في أذن ملكة بريطانيا الوقورة قبل انتخابه بـ10 سنوات رئيساً لأقوى دولة في العالم، قائلاً إنه يلبس احتفاءً بها جزمة كاوبوي نقش عليها شعار التاج البريطاني «ليحفظ الله الملكة»! ففي مواسم الحصاد التي تتطلبها القوة العظمى لا مكان في الغالب إلا للمجانين أو من هم في حكمهم. في الحقيقة، لا أستطيع إخفاء إيماني العميق بأن السياسة الأميركية لا تبنى أبداً على الصدفة، إنما على خطط مدروسة تحددها المصالح في شكل لا يقبل أية مساومة، وفي استقراء سريع للظروف التي أحاطت تولي آخر ستة رؤساء أميركيين كانت منطقتنا الشرق أوسطية واحدة من أبرز مسارح مخططاتها، فإنني أزعم بأنه يمكن التنبؤ بماهية الرئيس القادم حتى قبل فرز أصوات الناخبين.

ترزح منطقتنا اليوم تحت وطأة رؤى إدارة الديموقراطي العتيد جيمي كارتر الذي أسقط الإيرانيون حلم استمراره في السلطة بعد حادثة اقتحام السفارة الأميركية في طهران واحتجاز 52 أميركياً، لم تكن طريقة كارتر في إنقاذهم تشي إلا بتخبط لا يمكن له مواجهة مرحلة كسر العظم القادمة بين القوتين العظميين أميركا والاتحاد السوفياتي، فحمائم الديموقراطيين التي يحفظ التاريخ لها فكرة دعم مارد الحركات الإسلامية الجهادية، لم يكن ذلك أوانها، ولذلك تم إطلاقها ليحل الصقور بقيادة المفاوض الصلب الجمهوري دونالد ريغان بدلاً منها، فتم دعم العمل المسلح في أفغانستان في يد، فيما كانت اليد الأخرى تخط مرحلة السقوط السوفياتي المدوي.

الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر سخونة بالنسبة للأميركيين في سباق النفس الطويل نحو بسط النفوذ والهيمنة، فالأحداث المتلاحقة في ثمانينات القرن الماضي وبداية التسعينات لا تزال تتطلب الحسم لا المرونة والتخطيط، وهو ما تم فعلياً باختيار الجمهوري أيضاً نائب ريغان طوال فترة ولايته التي امتدت لثماني سنوات جورج بوش الأب لمنصب الرئيس، الذي تعاملت معه منطقتنا العربية عن كثب خلال حرب الخليج الثانية إبان احتلال العراق للكويت. 12 عاماً من العمل الحافل للجمهوريين بكل تداعياتها التي جعلتهم يتربعون على عرش العظمة في العالم، كانت كفيلة بأخذ قسط من الراحة يلتقط فيه الأميركيون أنفاسهم ويجنون أرباح مرحلة عصيبة عملوا فيها بكل اقتدار، ليقع اختيارهم على بيل كلينتون، الديموقراطي الذي كانت محطته تشبه إلى حد بعيد الاستجمام على شواطئ دافئة بعد رحلة عمل مرهقة، تفصلهم عن المرحلة القادمة التي بدأت مع تولي جورج بوش الابن مقاليد الرئاسة، تلك المرحلة الشاقة التي أتت على الأميركيين فيها أيام الـ11 من أيلول (سبتمبر) والحرب على الإرهاب وجنون العظمة التي جعل الكلمة العليا فقط للأميركيين.

سنوات عصيبة غيرت وجه العالم والتاريخ وحتى أميركا نفسها، ساد فيها منطق القوة على ما سواه، كان عنوانها الأبرز ما صرح به جورج الابن: من لم يكن معنا فهو ضدنا. حبس العالم خلالها أنفاسه من هول طغيانها حتى أعلن العم سام عن المرحلة الجديدة التي رفع راية التغيير شعاراً لها، تغير غسل معه كل العار الذي لحق بالديموقراطية التي طالما بشرت بها أميركا، تغيير جذري طاول حتى قسمات الرئيس المنتخب ولون بشرته، التي اعتاد الأميركيون والعالم على رؤيته يطل من شرفات البيت الأبيض، جاء الأميركي من أصول أفريقية باراك أوباما، الرئيس الذي وصمت مرحلته من السياسيين وغيرهم بالضعف وقلة الحيلة، وكأن سيدة العالم تهرول عبثا!

بعيداً عن نظرية التآمر، فإن العالم الذي يبدي اليوم تململاً واضحاً من سياسات أوباما، هو ذاته الذي اشتكى من تعجرف بوش، وهذا العالم الذي تعطيه قائدته في كل مرة دورساً في السياسة، هو من يطالب اليوم بالحسم في ملفات عدة. فالسوريون ينتظرون الفرج، وإيران تعبث بالمنطقة العربية بلا حسيب، ومن خلفها روسيا تترقب وهي تقدم رجلاً وتسحب الأخرى، لم يسعفهم الوقت ولا القدرة، والانتخابات الرئاسية على الأبواب، والقادم بلا شك هو الذي يستعدي العالم بما فيه أبرز حلفائه بدءاً من حلف الأطلسي بما فيه الإنكليز.

شخصياً، متفائل بمجيء ترامب، الأحمر المجنون، الذي استوعب مزاج الأميركيين جيداً من جهة، وكذلك متطلبات المرحلة القادمة، فكان خصماً لها بلا منازع، لذلك شدوا الأحزمة فنحن على أعتاب ترسيخ جديد لمعنى أن تكون «دولة عظمى» وسيداً للعالم، ولا عزاء للمتأخرين عنها المنظّرين فقط.

المصدر: الحياة