المثقف ومشهد التغير العربي

آراء

«لا مفر من مواجهة الحقيقة المحتومة وهي أن… الاحتجاجات من جانب المثقفين أو المفكرين لن تأتي لهم بأصدقاء في أعلى المناصب ولن تتيح لهم ان يحظوا بآيات التكريم الرسمي. والمثقف أو المفكر يجد نفسه اذاً في عزلة، لكن هذه العزلة خير من الصحبة التي تعني قبول الاوضاع الراهنة على ما هي عليه».

ادوارد سعيد، صورة المثقف: قد يكون المثقف روائياً أو صحافياً او كاتباً وإعلامياً أو رساماً أو صاحب مدونة وفناناً فيؤثر في الآخرين، ناقلاً اليهم مشاعره وأحاسيسه ومشاهداته. إن جانباً رئيساً من هوية المثقف مرتبط أساساً بعدم تقبله القوالب الجامدة ومقدرته على التجديد والتساؤل والتصدي للخطأ، أكان ذلك ظلماً أم فساداً ام سوءاً. إن أحد مواصفات المثقف مرتبط بمقدرته على بناء مسافة مهما بدت بسيطه بينه وبين السلطة. فالسلطة في كل مجتمع معرضة باستمرار للخطأ وتسعى بطرق مختلفة الى تقييد الحريات وقلّما تفهم الثقافة او تتفهم الرؤية النقدية والبعيدة الأمد التي يحملها المثقف. إن حتمية بناء المسافة بين المثقف والسلطة مرتبطة بطبيعة الثقافة، فالثقافة لا تتطور إلا بعلنية النقد وحرية التعبير والتقاط مصادر الظلم واحتياجات رفعة الإنسان والحفاظ على كرامته. إن محنة المثقف في بلادنا العربية مرتبطة بتعرضه لتأثيرات أنظمة سياسية تتحكم في تعابير الثقافة المعلنة. لهذا بالتحديد لا مثقف بلا استقلالية ولا قيمة للمثقف بلا شجاعة خصوصاً في التعامل مع مناخ سياسي لا يشجع على النقدية والرأي المخالف.

وفي نقاش دور المثقف العربي والتغير، فلنأخذ حادثتين من سورية قبل الثورة. الحادثة الاولى وقعت مع الروائية السورية روزا ياسين التي كتبت رواية توثّق فيها حال سجون الرأي في نظام الأسد. لكن روزا ياسين منعت من السفر لسنوات الى أن سمحت لها المخابرات السورية بالسفر للتحدث عن الرواية العربية في مؤتمر فكر ٩ المعقود في بيروت في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠ قبل «الربيع العربي» بأيام. كنت شخصياً رئيس الجلسة وصاحب الدعوة من خلال مؤتمر فكر، لكن في يوم سفرها إلى المؤتمر جاءها قرار المخابرات السورية، الذي كان صادماً للمشاركين في المؤتمر، والذي منعها من السفر. هذا يوضح جانباً من معاناة الثقافة والمثقفين في البلدان العربية. أما الحادثة الثانية فحصلت مع د. برهان غليون الذي كان في زيارة نادرة الى وطنه سورية في صيف ٢٠٠٩ قادماً اليها من باريس حيث إقامته وعمله كأستاذ جامعي. قضى برهان أيامه في سورية، ثم عندما همّ بالخروج الى لبنان في طريقه الى فرنسا أوقف عند الحدود السورية وقيل له انه منع من المغادرة من جانب المخابرات. سأل برهان المتفاجئ: أي مخابرات؟ قالوا له: عليك ان تبحث في دمشق بين الاجهزة الأمنية المختلفة. بدأ د. برهان في التنقل من فرع الى آخر مع صديق له في دمشق ليستدل على الفرع الذي أمر بعدم سفره. وحينما وجد ذلك الفرع في العاصمة، قابله رئيس الفرع الذي عاتبه بسبب توقيعه قبل سنوات على بيان مثقفين خاص بالإصلاح في سورية. ثم أردف رئيس الفرع مهدداً بلباقة: هذه المرة أستطيع ان أساعدك، لكن في المستقبل لن أستطيع عمل أي شيء. أعرف هذه القصة لأنني التقيت د. برهان في بيروت في اليوم الذي غادر سورية الى بيروت في طريقه الى فرنسا.

وكم من مرة على مر العقود ذهبت الى مؤتمر لأعلم أن المشارك الثاني في الندوة من دولة عربية لم يأت على رغم وصول بحثه القيّم، وذلك بسبب عدم نيل الإذن من مدير الجامعة ووزير التعليم العالي والديوان والمخابرات والقصر والاجهزة المخفية وغير المخفية التي تتحكم بالثقافة. من جهة أخرى، لم أسمع على مر سنين وعقود من العمل الثقافي ان مثقفاً إسرائيلياً او أوروبياً او أميركياً منع من حضور مؤتمر أو منع من تقديم بحث مهما كان يسارياً او ثورياً او نقدياً، لأنه لم يأخذ موافقة من السلطات.

إن معاملة المثقفين كخطر ومنعهم من السفر أو من دخول نصف البلاد العربية جعلت الفارق بين المفكر من جهة وبين القاعدة من جهة أخرى وكأنه غير ذي معنى. لقد ساهمت حالة المنع في وصولنا الى ما نحن عليه اليوم من ثورات وغضب، فقد وصل غضب المثقف العربي وضيقه، بل وشعوره بالاختناق الى الطبقات الوسطى والشعبية التي لم تكن لتعرف كيف تعبّر عن آلامها وتهميشها. إن معاملة المثقفين بتعسف جعلت المزيد منهم ينخرط في قضية التغير عبر ايصال رسالتهم الى المجتمع المقهور. لهذا بالتحديد في ظل «الربيع العربي» والثورات العربية الراهنة تعبر الثقافة العربية عن لحظتها التاريخية، وهي في هذا تختبر بداية جديدة بدأت تخلصها من القيود التي كبّلتها… الثقافة العربية في طريقها لأن تفيض الى العلن.

إن المثقف والحرية وجهان لعملة واحدة. فالحرية تعطي المثقف قوته، بينما يؤدي سلب الحرية الى جعلها قضية نضال بالنسبة اليه. في الحالتين لا يمكن قتل الثقافة. فمثلاً عندما ألف د. صادق جلال العظم كتابه «في نقد الفكر الديني» بعد حرب ١٩٦٧ عومل بتعسف وسُجن، وعندما ألف د. عبدالله النفيسي كتابه «الكويت والرأي الآخر» منذ عقود، وعندما ألف المرحوم خلدون النقيب كتابه «عن القبيلة والدولة في الخليج» قامت الدنيا ولم تقعد وعوملا معاملة سلبية، ولكن عندما كتب أخيراً محمد عبدالقادر الجاسم في الكويت كتابه «آخر شيوخ الهيبة» كانت ردود الفعل أهدأ. أحياناً يبرز في الأفق العربي بعض الاستعداد الرسمي لتقبل رسالة المثقفين، لكن لا يزال القول بأن الحرية تنتزع ولا تعطى صالحاً كما تؤكد لنا تجارب الثقافة في مناطق العالم قاطبة.

وفي الثورة المصرية مجموعات من المثقفين تحولت لمصلحة الثورة وتبنتها قبل ان تنفجر بسنوات وعقود، فكم من مثقف مصري كتب للثورة وغنى لها قبل ان تكون (الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم مثلاً)، وكم من مثقف وضع في السجن بتهم لأنه عارض توريث السلطة كما حصل مع سعد الدين ابراهيم وشخصيات معارضة إسلامية وآخرين… بعض المثقفين لعبوا دوراً يكاد يكون مبشراً في الثورة مثل الروائي علاء الاسواني ومحمد سلماوي ومصطفى الحسيني. في الثورة المصرية تحول المثقف الى قوة تغير ولا يزال، وفي الثورة السورية شاهدنا كم من المثقفين السوريين هُمّشوا وعانوا وسحبت جوازات سفرهم ثم اضطروا للهرب من بلادهم من دون ان يحيدوا عن رسالة المثقف وسعيه الى الحرية والتجديد. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن الحراك البحريني والاردني واليمني وبقية الحراكات العربية في كل مكان…

هذا لا يعني ان المثقف عدو للسلطة في كل الاوضاع، والمسألة ليست بين الابيض والأسود في كل الحالات، فقد شهدت البلاد العربية نوعاً من المثقفين ممن ينضمون الى السلطات لفترات متقطعة ثم لا يلبثون ان يستقيلوا تاركين المكان وعائدين للناس ولتبني القضايا التي تؤثر في الحقوق والتجديد. كم من مثقف ممن عملوا في سلك القضاء او سلك الحياة العامة تركوا نظام مبارك وأنظمة عربية كثيرة من اجل موقف ورأي مفضلين الانضمام الى حس النقد والتغير؟ كم من مثقف رفض مواقع رئيسة لأجل المبدأ؟ وكم من مثقف انسحب من مشروع سياسي وكتابي لأنه يقدم صورة زائفة لواقع مرير؟

وللمثقفين نقاط عمياء، من أسوئها ان يرى المثقف آلام بعض الفئات ثم لا يرى آلام فئات تمر بظروف مشابهة في الجانب الآخر من السور… وقوع المثقف في كمين الكيل بمكاييل مختلفة حول الظلم والحقوق شائع. ففي حالات كثيرة نجد ان المثقف يرى حقوق السنّة ولا يرى حقوق الشيعة أو العكس، ونجده يتفهم حقوق المسلمين ويغض النظر عن حقوق المسيحيين من أبناء وطنه بينما يهمش حقوق المرأة ويغضب لتهميش حقوقه. هذا النمط من المثقفين لا يختلف عن المثقف الغربي الذي يرى حقوق الانسان في العالم كله لكنه يقف عاجزاً امام حقوق الانسان الفلسطيني كونه يتصارع مع مراكز قوى مؤثرة في بلاده.

عودة المثقف العربي الى عالمه النقدي والطبيعي تعني ان دور المثقف الرئيسي كان ولا يزال يتلخص في إثارة الجدل وتسليط الضوء على النواقص ونقد الظواهر وطرح روايات جديدة للتاريخ وللأحداث الجديدة والمقبلة. في ظل الحالة العربية الجديدة الراهنة ستتصاعد هذه التعبيرات في الرواية والقصة وفي الكتابة والمقال وفي الشعر والادب والمسرح والأغنية واللغة وفي الشبكات الاجتماعية. من الآن فصاعداً ستفشل محاولات احتواء الثقافة وذلك بفضل انكسار حاجز الخوف والرهبة، ستفيض بنا ثقافة جديدة في السنوات المقبلة. نحن في الطريق الى عالم أكثر شجاعة وأكثر حرية.

المصدر: صحيفة الحياة – 2012-06-07