محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

المعجزة والعقل

آراء

خاص لـ هات بوست :

يسمي الإنسان ما يعجز عن وضع تفسير معقول له “معجزة”، وفي بداية الأنسنة كانت ظواهر الطبيعة معجزات، فالشمس والقمر والرعد والبرق والمطر كلها ظواهر لم يكن بمقدورالإنسان وضع تفسير معقول لها، فاتخذ من بعضها آلهة أحياناً، ثم تدرج في الوعي شيئاً فشيئاً، وتزامن الأمر مع إرسال الله لأنبيائه ومرسليه ليصححوا المسار ويشذبوا المعتقدات، وكان لا بد أن يؤيدهم الله بما يبهر ويمنحهم مصداقية أمام أقوامهم، ولم تكن هذه البينات إلا من ضمن قوانين الطبيعة حتى لو شكلت قفزة زمنية فيها، فاستطاع إبراهيم تحمل النار التي ألقاه بها قومه، فكانت برداً وسلاماً عليه، وتمكن موسى من تقديمعرض من البينات الحسية من العصا واليد والجراد والقمل والضفادع وغيرها، ثم شق البحر بعصاه فأغرق فرعون، وأحياالمسيح الموتى وشفاالأكمه والأبرص، وكل هذه معجزات مادية سبق فيها عالم المحسوس عالم المعقول.

وإذ تدرجت الإنسانية في الوعي تناقصت المعجزات تدريجياً، حيث أصبحت المحسوسات لها تفسير على أرض الواقع، ويمكن للعقل أن يدرك حيثياتها، ولأن الرسول محمد (ص) حمل الرسالة الخاتم التي ستستمر إلى قيام الساعة، فإنه لم يؤت معجزات مادية قد لا تصمد يوماً أمام العقل، وإضافة لكونه افتتح عصر المساواة والتعددية، افتتح أيضاً عصر العقلنة، فلم تحتو رسالته على ما لا يقبله العقل، وإن كنا نجد غير ذلك في التنزيل الحكيم فهذا يعني أن هناك خلل ما في قراءتنا له، وعلينا إعادة التأويل، فمعجزة محمد الخالدة هي القرآن الكريم، الذي قرن أحداث الطبيعة بأحداث التاريخ، وكلما ابتعدنا عن زمن نزوله كلما ظهر تأويله، فقوله تعالى مثلاً {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء 30) لم يكن بالإمكان إدراكه في القرن السابع الميلادي، لكن الآن نعلم أن لا وجود لحياة في الكون دون ماء، والقرآن قال منذ أربعة عشر قرناً أن هذا الكون قائم على قانون الزوجية في كل شيء {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات 49) مع التحذير بألا ننسى هذه الحقيقة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، كذلك حوى القرآن الحقيقة المطلقة للوجود بحث تفهم بشكل نسبي وفق الأرضية المعرفية لكل زمان ومكان، ولهذا فإن تفسيرات الصحابة يمكنها أن تعكس الأرضية المعرفية لعصرهم، أما اعتبار الإعجاز هو لغوي أدبي فقد أظهر الله سبحانه وكأنه في مباراة مع الشعراء، في الوقت الذي مواضيع القرآن تجمع دقة نيوتن مع بلاغة شكسبير.

لكن احتكاك “المسلمين” الأوائل بالشعوب المجاورة، والاطلاع على ثقافاتهم بما تحتويه من غث وسمين، وما تحمله مللهم من قصص، جعلهم لا يقبلون لرسولهم بأقل مما أوتي موسى وعيسى من معجزات مادية، فإذا كان الحجر قد تفجر لموسى فقد تفجر لمحمد، وإذا شق له البحر فالرسول أيضاً عبر الماء لغزو خيبر، وإذا أبرأ عيسى المريض فمحمد أيضاً استطاع شفاء المرضى، وإذا كان موسى قد كلمه الله فإن محمداً قد صعد إلى السماء ليلاقي ربه، ويقرع الأبواب، وكأن الله سبحانه جالس في بيت ذي أبواب، ولديه حراس يسمحون لهذا ويمنعون ذاك، حاشاه عما يصفون.

والتنزيل الحكيم أكد في مواضع عدة أن الرسول لم يؤت معجزات غير القرآن: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود 12)، و{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام 35) والرسول ذاته لم يدع غير ذلك، بل أكد مراراً وتكراراً أنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف 188).

وهنا نستحضر ما قاله الراحل جورج طرابيشي في كتابه “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام”: “ليس يصعب على مستقرىء كتب السيرة هذه أن يلاحظ أن باب معجزات النبي فيها يخضع خضوعاً شبه ميكانيكي لقانون التضخم طرداً مع مرور الزمن، فبعد أن كانت لا تتعدى عند “ابن سيد الناس” في كتاب “عيون الأثر” الثلاث صفحات، امتدت إلى السيرة الحلبية لتشكل خمس وعشرين صفحة، حتى وصلت عند ابن كثير إلى مئتين وخمس وثلاثين صفحة”.

فهل لنا أن نعيد العقلنة لديننا ونبتعد عن الترهات؟