د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

المواطنة أو الديمقراطية

آراء

مع أن أي مقارنة لا تخلو من مجازفة وتعسف، فإن تشبيه أوضاع منطقتنا راهناً بما شهدته بلدان أوروبا في العصور الوسيطة له ما يبرره من عدة أوجه: حروب دينية وطائفية وصراعات أهلية مدمرة، وصراع أفكار محتدم بين حركية تشد للماضي والتقليد وديناميكية تنزع للتحديث.

الفرق الجوهري بين الحالتين هو الأطر القانونية والمؤسسية التي أبدعها الغرب الحديث للخروج من أزماته هي نفسها التي تم تصديرها إلى المجال العربي الإسلامي، دون أن تؤدي الدور نفسه وتفضي للنتائج نفسها حسب ظاهر الأمور. وللتذكير فإن هذه الحلول التي ابتكرها العقل السياسي الأوروبي تمحورت حول آليتين كبيرتين: الدولة الوطنية المدنية والديمقراطية التمثيلية التعددية، وليس من الصحيح أنهما آليتان مترابطتان عضوياً لا في التصور والتزامن.

ودون الإسهاب في معطيات التاريخ السياسي الأوروبي ومساراته الفكرية، نكتفي بالقول إن الدولة الوطنية السيادية هي التي ورثت السمة الإطلاقية للدين من خلال امتصاص واستيعاب مفهوم «الحق الإلهي» بفك ارتباطه مع الملل والطوائف المتصارعة وربطه بالكيان الجماعي المشترك، مما مهد الطريق للنظم العلمانية التي هي الترجمة الموضوعية لهذه النقلة داخل نموذج «الحق الإلهي». ومن هنا يمكن القول إن هذا النموذج الإطلاقي في تصوره الأحادي للجسم السياسي لا يستقيم مع مفهوم التعددية والتمثيل الذي يفترض غياب التجانس في المجتمع، وينطلق من غياب قطب ناظم وضابط للهوية الجماعية المشتركة.

ولذا فإن الإشكال الكبير الذي واكب نشأة وتطور الفكر الليبرالي الغربي هو ضبط هذه العلاقة بين التصور السلبي للحرية، أي تعريفها بالانفكاك من كل السلطات المقيدة لإرادة الذات الفردية والتصور المدني للدولة كتعبير عن الإرادة الجماعية المشتركة. وكما كانت الدولة السيادية حلاً عملياً اقتضته متطلبات الخروج من الصراعات الأهلية، فإن الديمقراطية التمثيلية كانت حلاً متأخراً اقتضته متطلبات الخروج من صراعات المجتمع المدني الذي هو التعبير عن تعددية الجسم الاجتماعي.

أين نحن من هذه المسارات التي ألمحنا إليها؟ هل يمكن أن نكرس بصفة متزامنة الحل المدني القانوني من الحروب الأهلية التي مزقت مجتمعاتنا والحل السياسي التنظيمي للصراع السياسي الشرس داخل بلداننا؟

هل يمكن أن تقوم ديمقراطية تعددية ناجحة في مجتمعات مفككة لا هوية لها تفتقد للهياكل الإدارية والمؤسسية الضرورية لحفظ الدولة وتأمين بقائها؟

تلك أسئلة أصبح من الضروري طرحها، لأمن المنظور الأيديولوجي الذي كانت تتناول منه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وإنما من منطلق الوضع الحالي وأزماته الحادة.

ما نلاحظه هنا أن موجة الانفتاح السياسي التي هبت على العالم العربي في العقدين الأخيرين – بوتائر متفاوتة- أدت في الظاهر إلى تأجيج حالة التفسخ والتفكك التي تعرضت لها العديد من الدول، وكشفت عن ضعف رابطة المواطنة في مجتمعاتنا التي شهدت تفاقم النزعات الانكفائية الخصوصية التي هي النقيض المباشر لأواصر المواطنة. هكذا نرى كيف تحولت أحزاب سياسية إلى واجهات سياسية للتنظيمات الطائفية، وكيف أصبحت حقوق المشاركة السياسية غطاء لمطالب المحاصصة الطائفية؟

ومن ثم أصبح السؤال المقلق يتعلق بشرعية استخدام الأطر القانونية والمؤسسية للدولة الوطنية في تمثيل ومأسسة الانتماءات المناهضة للهوية المدنية المشتركة، بحيث تغدو الهياكل الديمقراطية المعول الذي يدمر به الكيان الوطني، مما هو بارز حالياً في العراق وليبيا واليمن.

الحل بطبيعة الأمر ليس بالرجوع إلى الديكتاتوريات العسكرية والأمنية التي كانت تحكم باسم الشرعية الثورية وتستند عملياً للميليشيات الطائفية والعشائرية ، كما أنه ليس بالدول الدينية (الثيوقراطيات)، وإنما يبدأ بتحرير الدين نفسه من التوظيف الأيديولوجي لنقله من عامل للصراع الأهلي إلى مقوم انتماء رمزي وقيمي للجماعة بمفهومها السياسي الحديثي (الديانة المدنية بلغة روسو والملة الكونية بلغة كانط).

التحدي هو بناء هوية المواطنة وهي هوية قانونية دستورية قائمة على مبدأ المساواة بديلاً عن الهويات الخصوصية التي إنْ بدت طبيعية وموروثه، فإنها في الواقع موطن إكراه الفرد ومسلك تدمير الدول وتفكيك الكيانات الجماعية. ومن ثم أصبح السؤال المقلق يتعلق بشرعية استخدام الأطر القانونية والمؤسسية للدولة الوطنية في تمثيل ومأسسة الانتماءات المناهضة للهوية المدنية المشتركة ، بحيث تغدو الهياكل الديمقراطية المعول الذي يدمر به الكيان الوطني، مما هو بارز حالياً في العراق وليبيا واليمن …

الحل بطبيعة الأمر ليس بالرجوع إلى الديكتاتوريات العسكرية والأمنية التي كانت تحكم باسم الشرعية الثورية وتستند عملياً للميليشيات الطائفية والعشائرية ، كما أنه آيس بالدول الدينية ( الثيوقراطيات)، وإنما يبدأ بتحرير الدين نفسه من التوظيف الأيديولوجي لنقله من عامل للصراع الأهلي إلى مقوم انتماء رمزي وقيمي للجماعة بمفهومها السياسي الحديثي ( الديانة المدنية بلغة روسو والملة الكونية بلغة كانط) .

التحدي هو بناء هوية المواطنة التي هي هوية قانونية دستورية قائمة على مبدأ المساواة بديلاً من الهويات الخصوصية، التي إن بدت طبيعية وموروثه فإنها في الواقع موطن إكراه الفرد ومسلك تدمير الدول وتفكيك الكيانات الجماعية.

المصدر: الاتحاد

http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=82152