النخاولة “النخليون” ونخل الحقيقة عنهم

آراء

أشكر صديقي وجاري الناشط الحقوقي العزيز، المهندس منسي حسون، الذي أهداني كتاب ” النخاولة (النخليون) في المدينة المنورة: التكوين الاجتماعي والثقافي ” من تأليف المهندس حسن بن مرزوق رجاء الشريمي النخلي، الصادر عن دار “الانتشار العربي، بيروت، طبعة 1، 2012م،” والمكون من 278 صفحة من الحجم الكبير، والذي استمتعت كثيراً في قراءته، حيث عرفت ما كنت أود أن أعرفه عن إخواننا الأعزة النخليين في المدينة المنورة، منذ زمن ليس بالقصير. وكانت مهمتي في البحث عن واقعهم الحقيقي، كما هي حقيقته، تشبه نخل أطنان الرمال، للخروج منها ببضع خرزات صغيرات من الفضة، وذلك من أجل فرز حقيقتهم من أطنان الأكاذيب والافتراءات التي كدست ودست عليهم وعنهم، منذ قرون. الكتاب استعرض تاريخ النخليين وامتداداتهم التاريخية والجغرافية، حيث هم من أقدم من سكن المدينة المنورة، وتشرفوا بمجاورة رسول الهدى نبينا وسيدنا محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه الغر الميامين، وسلم، ورعاية وخدمة زوار مسجده النبوي الشريف.

كانت نتف المعلومات التي تصلنا عنهم، على قلتها وندرتها، هي معلومات سلبية في حقهم ومغالطة لحقيقتهم الكريمة. عندما كنت طفلا زرنا المدينة المنورة، وسمعت من نعرفه يحذر عمي من الشراء أو التعامل معهم. وعندما أصبحت شاباً، كنا نستخدم كلمة يا “نخولي” أو لا “تنخول” معي، بمعنى لا تخدعني أو تقول لي شيئا وتعمل شيئا آخر، مع كوني لا أعلم مصدرها.

وعندما كبرت، وكنت أقابل أشخاصا من المدينة المنورة بحكم الزمالة في الدراسة والتي تحولت بعد ذلك لصداقة، كنت أسألهم عنهم وتكون إجاباتهم غالباً سلبية ضدهم، فلا أقتنع بكلامهم، حيث هو مجاف للعقل والمنطق والتاريخ كذلك.. فكيف بأناس مسلمين، جاوروا الرسول صلى الله عليه وسلم لعشرات القرون، وهم يظهرون الإسلام ويبطنون عكس ذلك؟! شيء لا يمكن أن يصدقه لا الشرع ولا العقل ولا المنطق، ولا حتى الحس السليم. إذاً فما تعرض له وما زال يتعرض له إخوتنا النخليون من حروب وهجمات تشويهية، تستهدف دينهم وذممهم وحتى نواياهم وجثثهم؛ هو نتاج حملات طويلة وشرسة ومتواصلة امتدت لأزمان، وتركت تأخذ مجراها ضدهم، دون التصدي لها، أو الوقوف بوجهها ورفع الظلم والحيف المعنوي وحتى المادي الذي حاق بهم وعليهم على مر قرون متتالية. وكانت ردة فعل الإخوة النخليين ضد كل هذا الجور والحيف، وحتى الظلم البواح الذي حاق بهم، من إخوتهم في الدين وبني جلدتهم وشركائهم؛ هي الصمود بالتقوقع والتكتل على الذات وحولها، كجزء من غريزة حب البقاء وإثبات الذات، حيث الحملات التي تعرضوا لها كانت مسعورة، أقوى من كل إمكاناتهم المادية والعددية بمراحل ضوئية، إلا من قوة أنفسهم وإيمانهم الذي اختاروه طريقا لهم للجنة، وثقتهم بأنفسهم واعتزازهم بذواتهم.

وكمثال واضح على صلف وعنت الحملات التشويهية الشرسة ضد إخوتنا النخليين، اتهامهم بعدم الأمانة والنصب والاحتيال. ومع ذلك فمن يرعى وينمي ويحافظ على زراعة النخيل في المدينة المنورة، منذ عهد الأوس والخزرج، هم النخليون، الذين توارثوا هذه المهنة التي يفتخر بها كل من سكن المدينة المنورة، منذ غابر العصور.. وكابرا عن كابر، وحركت اقتصادهم حتى عصرنا هذا. ومهنة زراعة النخيل والاهتمام بها، هي التي تمت تسميتهم بها، “النخليون أو النخاولة”. فلوا لم يكن النخليون بقدر الأمانة والمسؤولية الملقاة على عواتقهم منذ القدم، لما رعوا وحافظوا على أهم منتج اقتصادي للمدينة المنورة وهو التمور، ولما تمسك بهم أصحاب مزارع وبساتين النخيل، ووثقوا بهم، ولم يثقوا بغيرهم لرعاية وحماية أملاكم، ولكن عندما يقول أحد عكس ما يشاهده على أرض واقعه ويثبته تاريخه، فهو مصاب إما بالعمى الإيديولوجي أو العنت المذهبي؛ أو أنه قد أصبح ترسا أصم، دون أن يعي، يتحرك ضمن تروس ماكينة دعائية جبارة، هو لا يعيها ولا يعي أهدافها التي قد يكون هو أحد ضحاياها، ولو كان مساهما بتدويرها.

إذاً من هم النخليون؟.. النخليون، حسب ما أورده الكتاب أعلاه، والذي اعتمد على وثائق تاريخية، ومصادر تعتبر مراجع في التاريخ العربي الإسلامي، هم من بقي في المدينة المنورة من الأوس والخزرج “الأنصار”، الذين امتهنوا زراعة ورعاية النخيل، ولم يهاجروا منها لباقي الأقطار العربية والإسلامية المفتوحة. وانضم إليهم عشائر وأسر من باقي القبائل الحجازية واليمنية والنجدية، التي وفدت إلى المدينة المنورة وامتهنت زراعة ورعاية النخيل، ومع مرور الزمن، ووجود شيخ لكل مهنة، أصبحوا يتحركون ويديرون حياتهم العملية، كجسد واحد، تحت شيخ واحد، مع احتفاظ كل عشيرة بشيخها ونسبها الخاص بها، ضمن عشيرة كبيرة، هي عشيرة النخاولة أو النخليين. هذا التكتل “النخلي” المهني أخذ مع مرور الوقت ينصهر بعضه مع بعض، حتى أطلق عليه بعض المؤرخين قبيلة النخاولة العربية الحجازية، مع كون بعض الرحالة الذين مروا بالمدينة المنورة، وجلسوا فيها لأسابيع، استقوا معلوماتهم، والتي بعضها سطحية، من بعض سكان المدينة، بأن النخليين من أصول فارسية.. وهذا مجاف لما ذكره المؤرخون؛ مع كون الأصل الفارسي أو التركي أو الأفريقي، لا يعيب صاحبه أو يقلل أو يهضم من وطنيته وانتمائه لوطنه أو لمدينته التي يعيش فيها، بأي حال من الأحوال.

وكان المذهب السائد في المدينة المنورة قبل العصر المملوكي، هو المذهب الشيعي الاثنا عشري، وذلك في أواخر العهد الأيوبي وبداية العهد المملوكي، ولكن في العهدين المملوكي والعثماني بعده، تم جلب سكان سنة من خارج الجزيرة العربية وتوطينهم داخلها، لضمان الولاء لهم، وتم تهجير بعض سكان المدينة الشيعة منها، حتى أصبح من بقي من الشيعة في المدينة يشكلون أقلية، غالبيتهم يعملون في حقول نخيلها.. وصل الأمر لدرجة أن السلطان المملوكي الظاهر جقمق، أصدر مرسوماً عام 842هـ، بمنع إدخال جنائز العامة من النخليين للصلاة عليها في الحرم النبوي، عدا الأشراف منهم، واتبعت السلطات المتلاحقة في المدينة هذا المرسوم.

والعثمانيون هم أول من فرض إضافة لقب “نخلي” بعد اسم كل فرد من الطائفة الاثني عشرية في المدينة المنورة، في الوثائق الرسمية، كما فرضوا إضافة لقب “بدوي” بعد اسم كل عربي قبلي؛ وهذا نوع من التمييز العنصري التي كان العثمانيون يستخدمونه في العالم العربي، ولذلك تحالفت بعض العشائر القبلية المحيطة بالمدينة المنورة مع عشائر النخليين، لحماية ذواتهم وكياناتهم.

لما دخل الملك عبدالعزيز، رحمه الله وطيب ثراه، المدينة المنورة، وقابل أعيان وشيوخ النخاولة، التفت إلى وكيل الإمارة آنذاك، عبدالعزيز بن إبراهيم آل إبراهيم، وقال له: “خذوا شهودهم وأعطوهم حقوقهم ولا تفتشوا قلوبهم، وهم من ذمتي في ذمتك يا عبدالعزيز”، ثم التفت إلى الوفد مخاطبا إياهم “أدخلوا مع الناس، ما أحد مفتش قلوبكم”.. فهل نحن فعلاً فاعلون، في الكف عن تفتيش قلوب أي فئة من مواطني المملكة، حسب وصية مؤسسها لنا؟.

المصدر: الوطن اون لاين