علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

برزة قصر الحصن

آراء

شريط طويل من الوجوه والأحداث، مر أمام عيني وأنا أتشرف يوم الثلاثاء الماضي بحضور «برزة قصر الحصن» التي أحياها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في إطار مهرجان قصر الحصن، الذي يقام للعام الثالث على التوالي، ترسيخا لمكانة هذا المَعْلم التاريخي الذي شهد العديد من الأحداث، وتعاقب عليه العديد من حكام آل نهيان الكرام، حتى غدا واحدا من أهم المعالم التاريخية في إمارة أبوظبي ودولة الإمارات.

في مشهد يمزج بين العراقة والحداثة، استقبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ضيوفه الرسميين من خارج الدولة وداخلها، بحضور عدد من الشيوخ والوزراء وكبار المسؤولين، والتقى بعدد من المواطنين في أجواء حميمية، داخل فناء الحصن الذي تحتضن أسواره من الجهات الأربع المباني الحديثة والأبراج العالية، راسمة لوحة تجمع بين الماضي التليد والحاضر الزاهي، مما أعطى فكرة إقامة «البرزة» في هذا المكان أبعادًا تجاوزت الحدث نفسه إلى معانٍ أعمق، استمدت دلالاتها من هذا المزج الرائع بين عراقة القصر وحداثة ما حوله، والتواصل الذي تفتقده الكثير من الأجيال والأماكن.

قصة «قصر الحصن» الذي يُعَدُّ أقدم بناء في أبوظبي، بدأت كما تقول الرواية التاريخية بشخص من منطقة ليوا، حيث مقر الحكم قبل أن ينتقل إلى أبوظبي، كان يطارد ظبيا في الجزيرة التي كان البعض يستخدمها لصيد السمك والغوص بحثا عن اللؤلؤ، إلى أن وجد الظبي يشرب من بئر عذبة. ولأن الماء الذي هو مصدر الحياة كان شحيحا تلك الأيام، فقد تم بناء برج من أجل حماية هذه البئر، وتكونت حوله مستوطنة بشرية عام 1760، وتم إطلاق اسم «أبوظبي» على الجزيرة.

وقد استغرق الأمر 33 عاما، قبل أن يقرر الشيخ شخبوط بن ذياب نقل مقر الحكم من واحة ليوا إلى جزيرة أبوظبي عام 1793، ويقوم ببناء قلعة حصينة في المكان، فيتم دمج برج المراقبة في حصن أكبر مساحة، يشتمل على برجين دائريين وبرجين مربعين، بالإضافة إلى مبانٍ داخلية مع فناء. وقد شكل الحصن مركز الدفاع الرئيسي في المنطقة، وأصبح مقرا رسميا لإقامة الحاكم ومركزا للحكم، فوفر مناخا من الاستقرار، وعزز المكانة السياسية للأسرة الحاكمة، وشكل ملجأ للناس ومكانا للتجمع، حيث كانوا يأتون لمقابلة حكامهم والتحدث إليهم في شؤونهم كافة.

يُعتبَر المبشر والكاهن الأميركي «صمويل زويمر» من أوائل الغربيين الذين زاروا المنطقة، وقد وصل إلى الإمارات مطلع شهر فبراير عام 1900، وزار الشارقة ودبي وجزيرة أبوموسى. ثم تكررت زياراته في الأعوام التالية، والتقى حاكم أبوظبي الشيخ زايد بن خليفة الذي يُعرَف بزايد الأول أو زايد الكبير، وحظي بضيافة الحاكم، وتحدث في مذكراته عن أحوال أبوظبي وحاكمها، فذكر أن عدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف نسمة، وقال إنه باستثناء قصر الحصن واثني عشر منزلا، فإن كل بيوت أبوظبي كانت مبنية من سعف النخيل، تمتد على شاطئ البحر لمسافة ميلين تقريبا.

واليوم تنتصب مئات الأبراج العالية والمباني الحديثة في مدينة أبوظبي، تحتضن «قصر الحصن» الذي بقي وحيدا بعد أن ذهبت تلك البيوت المبنية من سعف النخيل التي تحدث عنها «زويمر» في مذكراته قبل أكثر من مئة عام، وأصبحت جزءا من الماضي، بينما ظل القصر شاهدا على عراقة هذا البلد وكرم حكامه، وعلى عزيمة أبنائه الذين تحملوا شظف العيش وشح مصادر المياه، وقهروا الصحراء وحولوها إلى جنان وارفة وحدائق غناء.

عام 2013 قامت مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان، بالتعاون مع هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، بتنظيم مهرجان قصر الحصن، وترأست الشيخة مريم بنت محمد بن زايد آل نهيان اللجنة المسؤولة عن التخطيط للمهرجان وتنفيذ أعماله وفعالياته التي امتدت على مدى عشرة أيام، وتميزت بعروض جميلة من التراث الإماراتي، حيث قام مخرج «سيرك دوسوليه» الشهير «فرانكو دراغون»، للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، بتقديم عرض مسرحي يروي التاريخ العريق والموروث الشعبي الإماراتي من خلال عرض قصة الحصن. كما أقيم معرض صور، ونظمت المؤسسة منتدى تضمن سلسلة من المحاضرات، نوقشت خلالها موضوعات ذات صلة بقصر الحصن، حاضر فيها عدد من الرواد والخبراء.

وفي الدورة الثانية من المهرجان التي أقيمت العام الماضي، أخرج «نورمان لاتوريل» أحد مؤسسي «سيرك دوسوليه» أيضا عرض «كافاليا»، بمشاركة 50 من الخيول، قدمت عروضا بهلوانية مع أداء لفنانين عالميين بتناغم وانسجام، أمام خلفية من الصور والأضواء دائمة التغيير، أخذت المشاهدين إلى عالم افتراضي شبيه بالأحلام. كما أقيمت ورش أتاحت لزوار المهرجان فرصة التعرف على تراث دولة الإمارات وثقافتها.

وهذا العام عاد المهرجان ليقدم تجربة أكثر شمولية، فتطورت مناطقه الأربع؛ الصحراء والواحة والبحر وجزيرة أبوظبي، لتقدم للجمهور تجربة تفاعلية.

وكان أبرز ما قدمته دورة مهرجان هذا العام الجولات الخاصة في الحصن، التي سمحت للزائرين بالتعرف على المعالم المحيطة بالقصر والموجودة داخله، وأتاحت للجمهور دخول الغرف الداخلية للمرة الأولى، ومشاهدة مناظر فريدة من تاريخ أبوظبي. أما أجمل ما في دورة هذا العام فقد كانت «برزة قصر الحصن» التي أعادت إلى الأذهان صورا ناصعة من تاريخ هذا البلد وحكامه الكرام، أضفت عليها صورة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الذي تصدر البرزة مزيجا من عراقة الماضي وروعة الحاضر وإشراقة المستقبل.

المصدر: البيان
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2015-02-23-1.2317820