محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

بماذا يفكر الآخر.. أوهام أم حقائق؟!

آراء

مرحلة عدم اليقين العربية التي تمر بها أمة العرب أفرزت الكثير من الأفكار والمقولات، بعضها أوهام وبعضها حقائق، إلا أن تصنيفها وفرزها يختلطان على الحصيف، ويتوقف استيعابها على من أنت وما خلفيتك الثقافية وخبرتك، وربما ميولك السياسية أيضا.

في الأسابيع الأخيرة القليلة حملني أمري للتنقل بين عدد من اللقاءات التي نظمت في عدد من الدول العربية والأوروبية، واختلف الجمهور إلا قليلا ممن قابلت. كنت أفكر وأفسر الأحداث بطريقة، وآخرون يفكرون بطريقة مخالفة بدت وكأنها وهم لي، على الأقل، وحقيقة لا تقبل الجدل من جانبهم. استطعت أن أفرز فيما سمعت عددا من الأوهام.

القضية الأولى (حتى لا أضع لها تعريفا مسبقا) التي صادفتني ولم أكن أتوقعها، أن كثيرين يرون فيما يتطور حولنا معادلة ثابتة تتلخص في أن «الربيع العربي هو بالضبط حكم الإسلام السياسي»، وأي ترتيب آخر هو ردة وعودة إلى ما قبل «الربيع»! تلك قناعة ثابتة لدى البعض، ربما عززها وصول الإسلام السياسي أو الحركي – إن صح التعبير – إلى الحكم في مصر وفي تونس في المرحلة الأولى من «الربيع»، ومحاولات الإسلام الحركي أيضا في كل من ليبيا واليمن، للوصول إلى الحكم، وانتشار المجاهدين في سوريا، ربما التمكين الأولي والسريع للإسلام الحركي هو ما رسخ الفكرة وجعل شرائح عربية ترى أن النضال هو عودة حكم الإسلام الحركي إلى سدة الحكم. فوجئت بهذا المنحى المسيطر على عقول كثيرين من المتعلمين لا يريد هذا الفصيل الواسع أن يقتنع بأن «الربيع العربي» يرمي في الغالب إلى فضاء من الحريات والمساواة واللحاق ومعاصرة القرن الواحد والعشرين الذي يضرب بعولمته الأشياء والناس!

أما الفكرة الراسخة الثانية المنتشرة فتقول، إن «دول الخليج ترسل مجاهدين إلى سوريا، بل وتخرجهم من السجون من أجل اللحاق بذلك الركب المتعصب»، فوجئت أيضا بانتشار تلك الفكرة، وعندما تحاول إقناع هؤلاء بالمنطق، بأنه نعم هناك بعض المتشددين من أبناء دول الخليج يلتحقون بتلك الجماعات، ولكن ليس عن طريق الدولة الخليجية الرسمية، فقط هي أفراد، وقد تكون مجموعات مدنية تقوم بمبادرات خاصة، يصر من يحدثك على أنه يعرف على وجه اليقين أن هذه الدولة الخليجية أو تلك ترسل من يعرفهم إلى أتون تلك الحرب! في محاولة لإلحاق سوءات تلك المجاميع بالدولة الخليجية الرسمية، لا يستطيع العاقل الذي يحدثك أن يفهم أن هناك دوافع لأفراد يغضبهم إلى حد القهر ما يحدث لإخوانهم في سوريا من قتل وتدمير وتطهير فئوي، وما تقوم به جماعات متشددة وطائفية من المساعدة النشطة في تهجير وقتل وتدمير إخوة في سوريا، فيأخذهم الحنق الطبعي للانخراط في نشاط عسكري، قد لا يكونون حتى مدربين عليه من أجل فعل شيء ما لمساندة إخوتهم هناك. هذه النغمة (إرسال دول الخليج مقاتلين رسميا) إن سمعتها من أبواق الآلة الإعلامية المناصرة للحكم السوري، تستطيع أن تفهمها، فهو نظام ينخرط في حملة هائلة لتزييف الحقائق، وكل أبواقه في الداخل والخارج تعزف نفس المعزوفة، إلا أنك حين تسمعها من قريبين إلى جماعات من الإسلام الحركي، تعرف أن هناك تخندقا خارج العقلانية يعتمد على مقولة «صديق عدوي هو أيضا عدوي»، دون تفرقة ودون تمحيص، وهي مقولة قد يقبلها العقل على مضض، في العلاقات البشرية الثنائية، ولكن لا يقبلها بتاتا في الفضاء السياسي، حيث من المفروض أنه يجب حساب العقل لا حساب العاطفة.

حتى أفسر ذلك الموقف، فإن هذا البعض يرى أن مناصرة الحكم الحالي في مصر من أي طرف تعني تلقائيا فتح النار الإعلامية عليه، حتى لو أدى الأمر إلى السقوط في مناصرة عدو خطر وشرس!

من الأوهام الأخرى المحيطة بنا التقليل من نشاط وشهوة الهيمنة الإيرانية على الخليج، البعض لا يرى هذه الشهوة أو يحاول تجاهلها، لأنه ينظر تحت رجليه فقط، منخرطا في أهواء عاطفية. شهوة إيران عارمة ومشاهدة، غذاها نجاح الجناح الإيراني في التغلغل كثيرا وعميقا في الشأن العربي الذي أصبح كماشة بأصابع فولاذية. في العراق لا يحتاج الأمر إلى كثير إثبات، وهو أعمق من ذلك بكثير في سوريا بالمال والسلاح والعتاد، كما هو أيضا في لبنان الذي خرب من الداخل، وأكثر ما خربه صراع اللبنانيين في حربهم الأهلية قبل عشرين عاما!

لقد تحولت شهوة إيران من استخدام لبنان «صندوق رسائل» إلى الامتداد للمنامة واليمن لتحويلهما إلى «صناديق رسائل إضافية». إيران بجانب تفوقها العددي، تواصل طموحاتها عن طريق أفضلية إقليمية نسبية لصالحها، وهي أنها تخاطب بعض الفئات العربية من خلف ظهر، أو من فوق رأس دولها، وتلك الأفضلية غير متوفرة لأي قوة عربية، فلا يستطيع العرب أن يخاطبوا أي فصيل إيراني عرقي أو سياسي من خلف ظهر أو من فوق رأس الدولة الإيرانية.

لقد انتفت فكرة «العمالة للآخر» في بعض المكونات العربية، والتي كانت قيمة سياسية مركزية، وأصبح «شيئا من الفخر» أن يعلن عن تبعية فصيل عربي إلى طهران، بصرف النظر عن مصالح وطنية أو قومية. هذه الميزة النسبية لطهران سوف تتوسع في المقبل من الأيام، بعد أن تطمئن أن القوى الغربية لم تعد مهتمة أو معنية بالمنطقة كما كانت في السابق.

البعض يريد أن يبقي عملية «التعامل من خلف الظهر» التي تقوم بها طهران في خانة الوهم أو التضخيم، وهي جزء من تحصين الممارسة الإيرانية وتعضيدها، يضاف إليها النشاط في العلاقات العامة الإيرانية التي تستقطب من له هوى تجاهها.

لعل الأمر اللافت الذي يخلط الحقيقة بالوهم ويزيد الطين بلة، تصريح الإخوة في حماس الأسبوع الماضي، الذي قال: «لقد أعدنا العلاقات بيننا وبين إيران، بسبب توقيعها مع القوى الغربية الاتفاق التمهيدي النووي»، يا له من تصريح في مرحلة عدم يقين إن ربطناه بما قيل أيضا من نفس المصدر: «إن موقفنا السابق السلبي تجاه إيران بسبب تورطها في سوريا»! أليس هذا الأمر من شاكلة «المسرح العبثي السياسي»؟ لقد نسي المتحدث أن السبب الذي ذكره ما زال قائما وفاعلا!

لعل من الأوهام المختلطة بالحقائق أن تقول بعض المصادر الأميركية، إن الاتفاق مع طهران هو من أجل «احتواء طموحاتها»! وكأن الولايات المتحدة تحولت إلى جمعية خيرية لمساعدة الآخرين!

الصراع الذي نراه أمامنا هو صراع على العقول، تحويل الحقائق إلى أوهام، وترقية الأوهام إلى حقائق، من أجل إشاعة جو من اللايقين في العقل العربي الذي توجه إليه تلك الرسائل، وهو الحالم الكسول الذي أصبح مولولا كالمرأة الثكلى!

آخر الكلام:

تمول إيران مباشرة أو مداورة أكثر من 10 محطات تلفزيونية ناطقة باللغة العربية وموجهة إلى عقل المشاهد العربي محملة بأفكار عقائدية وسياسية، كما تحتضن عددا من مراكز البحوث، لا أعرف إن كان ثمة محطة عربية واحدة ناطقة بالفارسية موجهة إلى الداخل الإيراني، أو مركز بحث عربي له اهتمام خاص بما يدور في إيران!

المصدر: الشرق الأوسط