علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

بوصلة البغدادي المختلة

آراء

تصورت للوهلة الأولى أن ثمة خللاً فنياً أصاب الجهاز الذي سجل عليه أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، خطابه الأخير الذي بثه بعد بدء معركة الموصل لاستعادة آخر وأكبر معاقل التنظيم في العراق، فقد ترك البغدادي القوى الأساسية التي تقاتل التنظيم داخل العراق وسوريا، وتلك التي تدعمها، ودعا مقاتليه إلى شن هجمات على المملكة العربية السعودية، واستهداف قوات الأمن ومسؤولي الحكومة، وأعضاء العائلة الحاكمة، ووسائل الإعلام، لمشاركتهم في الحرب على الإسلام والسنّة في العراق والشام، حسب تعبيره. كما دعا مناصريه إلى غزو تركيا، ونقل المعركة إليها، وإطلاق نار غضبهم على القوات التركية.

إذا لم يكن ثمة خلل أصاب جهاز التسجيل، فمؤكد أن ثمة خللاً أصاب بوصلة البغدادي، ربما بسبب أجهزة التشويش التي تستخدمها القوات المنتشرة في المنطقة، فألحقها بعقله المختل، فقد كان متوقعاً أن يطلب البغدادي من مقاتليه مهاجمة إيران التي تحارب ميليشياتها التنظيم في العراق تحت اسم «الحشد الشعبي»، وتحاربه في سوريا تحت اسم «حزب الله».

أو كان متوقعاً أن يطلب منها أن تتوجه لمحاربة إسرائيل التي تحتل فلسطين، كما تقتضي أدبيات الخطاب الديني الذي تعودنا سماعه من جماعات الإسلام السياسي لدغدغة مشاعر المسلمين واستدرار إعجابهم.

هذا إذا كان منطلق البغدادي وتنظيمه هو الجهاد كما يدّعي، أما أن تكون السعودية وتركيا فهما هدفا تنظيم «داعش» في مرحلة ما بعد الموصل، إذا خرج التنظيم منها سليماً ومتماسكاً، فهذا يعني أن بوصلة البغدادي مختلة، أو أن هناك خللاً في خرائط «غوغل» التي يستخدمها زعيم تنظيم داعش، ويوجه من خلالها مقاتليه ومناصريه.

منذ أن وعينا على الدنيا، وتنظيمات الإسلام السياسي بمختلف أشكالها توهمنا أن هدفها الأول والأسمى والأعلى، وكل ما يمكن أن تستوعبه أفعل التفضيل من كلمات، هو تحرير فلسطين من أعداء الله اليهود، كما يسمونهم، واستعادة الأرض السليبة من قتلة الأنبياء وشذاذ الآفاق وأعداء الأمة، كما تصفهم ماكينتهم الدعوية والدعائية. أما أن تخرج علينا جماعة تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية» لتطلب من مقاتليها ومناصريها توجيه بنادقهم وأسلحتهم إلى دول يدين أهلها بالإسلام، مثل السعودية وتركيا، فهذه بدعة خرج بها علينا زعيم تنظيم «داعش» الذي يحتضر في العراق، زاعماً أن ما يحدث «ما هو إلا تقدمة للنصر المكين» كما جاء في خطابه.

أبوبكر البغدادي، زعيم تنظيم «داعش»، الذي خرج من رحم تنظيم «القاعدة»، الذي خرج من رحم تنظيم «الإخوان المسلمون»، وصف في خطابه «الإخوان» بالشرذمة، وقال إنهم رأس حربة مسمومة لمحاربة الخلافة، ونعتهم بالكفر والشرك، وصنفهم «طائفة لا دين لها». وهذه أيضاً هلوسة ربما لا تكون جديدة، لكنها تؤكد المأزق الذي تمر به هذه الجماعات والتنظيمات، وتعبّر عن اشتعال الصراع بينها.

وهو صراع يفاقم الأزمة التي يعيشها الإسلام السياسي المتطرف، الخاسر الأكبر منه هم المسلمون المعتدلون الذين تتمزق أوطانهم، والأمة التي تتشرذم نتيجة هذا الصراع وغيره من الصراعات الإثنية والمذهبية والطائفية والعرقية والسياسية، وكل ما من شأنه إضعاف الأمة وتمزيقها وإعادتها إلى الوراء، في الوقت الذي تتقدم فيه الأمم والشعوب الأخرى، وتخطو نحو المستقبل قوية متماسكة، ذات خطاب موحد تجاوز مرحلة الخلافات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية التي تمزق أمتنا، وتحولها إلى جماعات صغيرة، ذات اتجاهات مختلفة، وميليشيات مسلحة تأتمر بأمر دول وأطراف خارجية، تتلاعب بها، وتوجهها لخدمة مصالحها، وتحقيق أحلامها التوسعية، تحت ضغط الضعف الذي تشعر به كل طائفة أو فصيل، وبدافع الخوف من الابتلاع والاضطهاد، والنتيجة هي ما نشاهده من صراعات بين أبناء الوطن الواحد، والدمار الذي يحل بالمدن والبلدان التي كانت ذات يوم حواضر الأمة العربية، التي ننسج حولها أحلامنا بالتوحد تحت راية واحدة، بعيداً عن التعصب الديني والطائفي والعرقي.

هل هي المؤامرة؟ ربما. هل هو الجهل؟ ربما. هل هو الخوف؟ ربما.

كل هذه احتمالات واردة، لكن المؤكد هو أننا أمة تنجرّ يوماً بعد يوم إلى الهاوية، وتذهب بإرادتها، أو رغماً عنها، إلى المزيد من الفرقة والشتات والتمزق، وتضع مصيرها في أيدي قوى خارجية أصبحت لها الكلمة العليا على حكومات وشعوب دول عربية كبرى مثل العراق وسوريا. وفي ظل هذا الوضع البائس يصبح خطاب زعيم تنظيم «داعش» الأخير متسقاً مع الواقع، وتصبح دعوته لمقاتليه بالتوجه إلى السعودية وتركيا متوافقة مع هذه البوصلة المختلة، ليس لديه هو فقط، وإنما لدى كل من هو على شاكلته. فهل يحق لنا أن نلوم زعيم تنظيم «داعش» وحده، أم نلوم جميع المنغمسين في اللعبة؟

هذا سؤال يجب طرحه كي تكون الصورة واضحة، وكي نعيد ضبط بوصلاتنا جميعاً.

وهو ليس تبريراً لدعوة البغدادي في خطابه الأخير، وما جاء فيه من هلوسات لا تصدر إلا عن رجل يترنح تحت ضربات قاتلة، فلا يجد وسيلة للخروج مما هو فيه سوى البحث عن أعداء، يعلم جيداً أنه لا يستطيع أن ينال منهم، لكنه يتصرف كما يفعل الثور الهائج وهو يتلقى ضربات «الماتادور» في حلبة مصارعة الثيران الأسبانية، التي تنتهي عادة بدخول البغال لجر الثور إلى الخارج، حيث يكون الجزارون في انتظاره ليتم تقطيع لحمه ثم بيعه. فمتى يعلم البغدادي وأمثاله أنهم ليسوا أكثر من مجرد ثيران في حلبة مصارعة، يديرها غيرهم من الخارج، ومتى يعلمون أن الباعة والمشترين مشتركون في اللعبة؟

المصدر: البيان