ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

تأملات في الدين والسياسة

آراء

تجلس في أحد المجالس فتترنح الأحاديث بين آخر الفتاوى الغريبة وبين مواقف السياسيين وتصريحاتهم في المنطقة. فمعظم المنابر الإعلامية في عالمنا العربي مقسمة بين رجال الدين والسياسة؛ ولا تنتهي نشرة أخبار حتى يبدأ برنامج وعظي أو آخر للفتاوى المباشرة التي تتزاحم فيها اتصالات السائلين عن أحكام كل تفاصيل الحياة، بدءاً من حكم الاحتفال بالعيد الوطني، إلى كيفية تنشئة جيل قارئ ومثقف. وتبرز المشكلة الحقيقية عندما تُخَصَّص ساعات على التلفاز لتفسير الأحلام، وكأن الأمة قد فرغت من علوم الطب والاقتصاد والتكنولوجيا ولم يبق لها سوى تفسير الأحلام حتى تتصدر قوائم التنمية البشرية! لذلك يبدو الفرق واضحاً بين أمة مشغولة بتفسير الأحلام وأخرى مشغولة بتحقيقها.

لا أدري لماذا ننتظر من رجال السياسة في منطقتنا العربية أن يحلوا جميع قضايانا الشائكة، ويبددوا الأزمات الاقتصادية، ويُنزِلوا السلام والاستقرار في المنطقة. وننتظر من رجال الدين أن يعطونا حلولاً في تربية أطفالنا، ويدلونا على أفضل الطرق لتنمية مهاراتنا الخطابية، ويخبرونا عن التاريخ والسيرة، ويقدموا نقداً أدبياً في الشعر الحديث! وننسى أن السياسة التي نتعاطاها ليل نهار، والدين الذي نتشاتم باسمه ويحاول كل طرفٍ إثبات أحقيته فيه، هما فقط مكونان من مكونات الفكر الإنساني.

إن إحدى مشكلاتنا أننا ننظر في منطقتنا العربية إلى الأشياء من منظاري الدين أو السياسة، وننسى أن هناك منظاراً ثالثاً هو منظار الحياة، أي كل الأشياء الأخرى التي تبحث فيها الأمم ويتحدث حولها الناس في مختلف بقاع العالم. ولهذا السبب فإننا نتجاهل إنجازات خريجينا القادمين من الجامعات العالمية، ونُقزّم طموحات رسامينا وروائيينا، ولا نأبه بالمخترعين والكيميائيين والباحثين والصيادلة الذين يقضون أيامهم ولياليهم في المختبرات وبين أروقة المكتبات، وكأن هناك حملة منظمة حتى لا يصبح المبدعون نجوماً في المجتمع، كرجال السياسة والدين.

إن الإبداع غير موجود في البرامج الحوارية، والتنمية ليست موجودة في المقالات السياسية التي تغص بها صحافتنا العربية. والوسطية الدينية غائبة عن الخطاب الديني الوعظي ذي الفكر الواحد، الذي أنتج لنا يوما أسامة بن لادن ثم تبرأ منه، وما زال يمارس الإقصاء العقدي والمذهبي ثم يشكو التطرف والعنف!

أنا لست ضد الدين أو السياسة، كما سيروج بعضهم بعد نشر هذا المقال، فهما عمودان أساسيان في البناء النسقي للحضارات الإنسانية، ولكنني ضد شيئين: الأول أن يسيطر أحدهما على الآخر فيفرغه من قيمته الحقيقية ويحيله إلى أداة من أدوات الصراع الإنساني. والثاني أن يكونا هما الرافدان الوحيدان والمهيمنان على فكر الأمة، ليصبحا الوجهين الأبرز لإنتاجها المعرفي.

وهذا ما هو حاصل اليوم ونراه جلياً في الصراع الذي يخوضه رجال الدين مع الساسة في المنطقة واختلاط حابِل هؤلاء بنابِل أولئك، فلقد ظهر محمد العريفي قبل مدة وخاطب الكويتيين بتغريدة تنتمي ألفاظها للقرن الثاني الهجري، متهما فيها أمير الكويت بأنه حاكم غير شرعي، أو كما قال: «غير جامع لشروط الولاية» ولا أدري إن كان في القرن الواحد والعشرين، الذي تغيرت فيه المفاهيم والفلسفات الحضارية، ما يسمى بـ»شروط الولاية»! ثم ظهر الرئيس المصري محمد مرسي في خطاب عام وفسر آية «إنما يخشي الله من عباده العلماء» تفسيراً غريباً حين رفع لفظ الجلالة ونصب كلمة العلماء، وقال إنها إحدى القراءات. ثم أضاف إن معنى خشية الله للعلماء هي خشية التقدير وليست خشية الخوف؛ فأثار لغطاً بين أهل العلم لم يهدأ حتى اليوم.

نقدّر العريفي ومرسي، ولكن الفوضى التي أحدثاها هي نتائج تسييس الدين وتديين السياسة، وما يقوم به غيرهما في نفس مجاليهما وبنفس قدريهما وتأثيرهما يؤدي بالمنطقة إلى تأزم واحتقان أكبر، ويباعد المسافة بين المعرفة الإنسانية التي ينهل منها أبناء وبنات الجيل الجديد وبين الواقع الذي يعيشونه.

فكيف يمكننا أن نقنع الجيل الجديد بأن هذه الفوضى في الخطاب الديني لا تمت للإسلام الصحيح بصلة؟ وكيف يمكن لمجتمعاتنا أن تقدر مبدعيها بينما لا يشاهد أفرادها في التلفاز إلا مقابلات الساسة، ولا يقرأون في الصحف إلا أخبارهم؟ ولا أرمي هنا إلى التقليل من أدوار الفضلاء والعقلاء منهم، ولكن يحزنني هذا المسخ التام والمنظم لكل أشكال الفكر والإبداع الإنساني الآخر. عندما اعترفتُ لأحدهم بأنني لا أشاهد نشرات الأخبار، ولا أستمع إلى الإذاعات، ولا أقرأ من الصحف سوى الملاحق الثقافية والمقالات، سألني عن السبب؛ فقلتُ له: «حتى أعيش حياة طبيعية».

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (٣٤٢) صفحة (١٠) بتاريخ (١٠-١١-٢٠١٢)