جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

تيار إسلامي يسعى دوماً إلى حتفه!

آراء

لماذا يسعى هذا التيار دوماً إلى حتفه؟ لا يعرف أنصاف الحلول، كل شيء أو لا شيء. ليس دوماً هو التيار السلفي الجهادي، بل موجود أيضاً في المدرسة الديوبندية الهندية. حتى السلفيون ليسوا واحداً، الملك عبدالعزيز الذي احتفلنا نحن السعوديين منذ فترة قريبة بذكرى اليوم الوطني للدولة التي أسسها، هو من أحيا السلفية المعاصرة. كان سلفياً حقيقياً، ولكنه كان سياسياً أيضاً، يناور الكبار ويقرب الصغار وينتصر في النهاية.

قبل التشويه الذي لحق بالسلفية الجهادية، عندما استخدم غلاةٌ هاتين الصفتين النبيلتين في المسلم، كان كل ناشط مسلم يجدد هذا الدين، يجمع بين السلفية التي تسعى لإحياء الدين والجهاد.

صلاح الدين الأيوبي، ومِن قبله عماد الدين زنكي كانا كذلك، جهاديَّيْن سلفيَّيْن، هل تريدون قصصاً حماسية عن تحريض هذين الزعيمين للعامة على الجهاد؟ لقد استخدما أساليب تشبه أساليب الحركات الإسلامية المعاصرة، ببث فكرة الجهاد وسط العامة بواسطة الوعاظ والخطباء، ليس في المساجد أيام الجمعة، بل في الأوقات كلها، وخارج المساجد، وفي المناسبات والاحتفالات، ثمة قصص عن فتيان صلاح الدين الجهاديين الذين هم أشبه ما يكونون بفدائيي هذه الأيام، عملوا عقوداً لبناء جيل مجاهد ينتصر في النهاية على الصليبيين، ويوحّد بعضاً من بلاد المسلمين التي انتثرت شذر مذر.

أسَّسوا إدارات محلية ناجحة في دمشق وحلب والقاهرة، فكانوا رحماء بالناس، يتدرجون في وعظهم، يقيمون الأمر بالمعروف وينهون عن المنكر بالحسنى. أحياناً كانوا قساة إن لزم الأمر، عماد الدين كان قاسياً وهو يصارع القادة المحليين. سياسة تلك الأيام كانت دموية. صلاح الدين، من جهته، لم يكن ديموقراطياً يؤمن بحرية الرأي وفق قواعد اليوم، عندما استتبَّ له الأمر في مصر، عصف بالفكر الشيعي واقتلعه بعدما كان الفكر والفقه السائد في مصر والأزهر. كان ذلك قراراً استراتيجياً، يؤمن به ديناً وقد تربى في حركة تشبه حركة «إحيائية» تشبه الحركات الإسلامية المعاصرة في بعض صورها، هي تحديداً مدرسة أبي حامد الغزالي وكتابه «إحياء علوم الدين». وآمن بها سياسة أيضاً، وهو يسعى لتوحيد مصر وبلاد الشام في نسيج سياسي وفكري واحد (لمن لا يعرف، صلاح الدين ليس بطلاً أسطورياً في إيران مثلما هو في عالمنا العربي).

في النهاية نجح عماد الدين زنكي وصلاح الدين في أن يبقيا، بل ويؤسسا دولتين استمرتا بعدهما سنوات. وأسَّسا لتيار صحوي إسلامي، وتركا كثيراً من المدارس والمستشفيات والأسواق والقلاع وشتى المنشآت التي لا تزال تشهد لهما (يُهدم بعضها هذه الأيام بمدفعية وطيران النظام السوري). إضافة إلى ما قاما به من إصلاحات إدارية. إذاً، لم يكونا مجرد حركة احتجاج عابرة مثلما هي «القاعدة»، وبقية أطياف المدرسة التي تسعى دوماً إلى حتفها.

كذلك فعل عبدالعزيز آل سعود في زماننا، مثل صلاح الدين وعماد الدين، لقد كان محاطاً بقادة محليين أغنى منه، وأقدر على المناورة، لهم علاقات دولية أفضل. كان محاطاً بدولة عظمى تحاصره حيثما نظر شرقاً، جنوباً، وشمالاً، بل غرباً عبر البحر في مصر.

واجه تحدي التيار الذي يسعى دوماً إلى حتفه، أراده أن يمضي بالفتح شمالاً، «ألسنا على الحق، أليس الله بناصرنا؟»، لعل فيصل الدويش قالها له وهو القائد العسكري البطل الذي كان مقرباً منه، يجادله لِمَ لا نمضِي فاتحين على الرغم من بريطانيا حامية الخليج والعراق وشرق الأردن؟ في النهاية تمرّد الدويش وقاتل إمامه الشرعي، ومات في سجنه، فأهمل التاريخ ذكر بطولاته، وتذكّر أكثر قصة تمرده وهزيمته، بينما تصدّر عبدالعزيز مستحقاً لذلك جل أوراق التاريخ وذكرى التأسيس.

تذكرت الملك عبدالعزيز بينما كنت أستمع لقائد من حركة الشباب الصوماليين يقسم أنهم لن يتوقفوا إلا في نيروبي وأديس أبابا، بعدما نجحوا في دحر القوات الإثيوبية من بلادهم عام 2006، كان بإمكانهم أن ينصرفوا إلى بناء وطنهم، وتعزيز دولتهم، وتعميق جذورهم. لو فعلوا ذلك ربما كانوا اليوم حكام الصومال الآمن المستقر الساعي للازدهار، وربما كان ذلك القائد يوقّع هذا الأسبوع اتفاق بناء ميناء في كيسمايو مع شركة موانئ دبي، ثم اتفاق امتياز للصيد البحري مع شركة يابانية، ولكنهم عوضاً عن ذلك يُدحَرون السبت الماضي منها، بعد أن كانت تلك المدينة البائسة على البحر آخر معقل لهم. تركوا خلفهم رسالة على «تويتر» تقول: «بعد أكثر من 5 سنوات، أغلقت الإدارة الإسلامية في كيسمايو الليلة الماضية، ستتحول من مدينة آمنة تحكم بالشريعة إلى منطقة حرب بين المسلمين والكفار». أكاد أسمع أحدهم يصرخ «ولكنهم سيعودون إليها فاتحين بإذن الله». ربما، ولكن بكلفة باهظة، لا يهمني من يُقتل منهم، فهم يحبون الموت، وإنما من المدنيين الصوماليين الذين تعبوا من الموت.

لماذا هذا التيار يسعى دوماً إلى حتفه؟ يحقق انتصاراً ثم يستفز من حوله، السكان المحليين، العالم. للتو انتصروا في ليبيا، بمشاركتهم في الثورة، وغسلوا عار فتاواهم القديمة بعدم جواز الخروج على ولي الأمر (القذافي)، فانطلقوا في حماقة يدمرون الأضرحة ويقصفون السفارة الأميركية التي باتت صديقة للشعب الليبي الذي صبر عليهم، ولكن بعد حماقتهم تلك انقلب عليهم، تظاهر ضدهم، خسروا كل شيء، أسلحتهم ومعسكراتهم، والأهم سمعتهم. في تونس الأمر نفسه، خرجوا من السجون، تنسموا الحرية، عاشوها، أساؤوا استخدامها، قرروا أن الشعب التونسي المتقلب في الحداثة بحاجة للهداية، وهو الذي قبل أشهر أوصل حزباً إسلامياً معتدلاً للسلطة، استفزوا الحكومة والشعب فانقلب عليهم وبات يطالب برأسهم واجتثاثهم. في اليمن، غابوا عن مشهد التغيير ضد المستبد الذي حاربوه، لم يعترفوا بأن تغييراً هائلاً حصل في البلاد يشكّل فرصة لهم للخروج من قوقعتهم المغلقة. لكنهم طالما أنه لم تتحقق كل طلباتهم، فجهادهم ماضٍ إلى قيام الساعة. آخر رد فعل لهم تفجير انتحاري في أبين!

في مصر مجادلون بامتياز، دخلوا الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، منصب مرموق، وسابقة تاريخية، وشرف سيفخر به كل من انتسب لها ما بقيت له من أيام، ولكنهم يتركون المهم لتوافه الأمر «يجوز تزويج الفتاة عند بلوغها». يفرح الليبراليون بحماقتهم، يتجادلون، ينصرف الجميع عن باب الحريات في الدستور المصري، النتيجة سيرونها في الانتخابات المقبلة.

أستطيع أن أستمر في رواية قصص من مالي، وأفغانستان، والعراق وبلادي (السعودية)، حيثما حلُّوا، يقدمون أولوياتهم على أوليات الناس، فيخسرون.

واقع الحال يقول: أجاز هذا التيار الأعمال الانتحارية في القتال، ويمارس الانتحار في السياسة.

 المصدر: جريدة الحياة