عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

حانوت صغير في رأسك!

آراء

الذكريات التي كانت والأحلام التي نجري خلفها لتكون، الذكرى التي نعرفها والحلم الذي نبنيه ونتلمس ملامحه، ركنان أساسيان يشكلان تكويننا وجغرافية قلوبنا.

أنت وأنا وكلنا لا يمر علينا يوم دون أن نتفقد أحلامنا أو نستدعي ذكرياتنا، عزيزة هذه الذكريات أو غير عزيزة على قلوبنا تلك مسألة أخرى، مشرقة أو بائسة، حزينة أو تعيسة تلك تفاصيل وأحكام خارج السياق، نحن نتحدث عن استدعاء الذاكرة، والذاكرة تخصنا فعلاً لكن عملها يخصها هي فقط، نحن نملكها وهي تملك مخزونها، لذلك فهي تحتفظ بأرشيفها الضخم والغني والغريب في أمان تام، تحتفظ بالصور المهمة كما تحتفظ بالتفاصيل التافهة والمزعجة، تحتفظ بالأصوات وتحتفظ بالروائح أيضاً، ولا سبيل لمحو شيء منها!

الذاكرة في جزء منها معمل تصوير، وفي جزء آخر حانوت عطور انتقائي ومريب أحياناً، فهل نعرف كيف نتلصص على تلك الحوانيت؟ أغمض عينيك تذكر المقهى الصغير الذي دلَّتكَ عليه فتاة الاستقبال في فندق »البيرغو« العريق في مدينة فينيس، ستجد صورة الفتاة حاضرة بعينيها المشعتين، بينما سيضج رأسك بروائح مطاعم ساحة سانت مارك وروائح القهوة الفاتنة في ذلك المقهى!

اغمض عينيك مجدداً واطلب الرحمة لجدتك التي توفيت في أواخر رمضان مضى مخلفة فراغاً هائلاً في بنية علاقات العائلة. سيخيل إليك لوهلة أنها تتحدث خلف أذنيك، سيأتيك صوتها الأجش الواهن وروائح الصندل ودهن العود والبخور التي كانت تملأ سماء غرفتها!

لا تغمض عينيك لكن تحدث عن جدك، ذلك الرجل الذي تناسل من قبيلة كل رجالها مهووسين بأناقتهم وثيابهم وبالنساء والطيب وفاخر الطعام، سيأتيك وقع خطواته، صوت ضربات العكاز على الأرض، رائحة القهوة التي لا يشربها إلا إذا كانت فاخرة تستحق عناء جلسة خاصة، يعبق فيها الهيل والزعفران وماء الورد. كل هذه الروائح مخبأة هناك في ذلك الحانوت الصغير العتيق في مدينة الذاكرة. نعم فهناك في مكان لا نعلم ماهيته وحدوده تقع هذه المدينة وتنتعش حياة كاملة بالتوازي مع حياتنا الراهنة والمرئية!

الأمل والتمنيات والأحلام التي تراودنا والتي تكمل وتشكل الجزء الثاني من تركيبتنا، تشبه مدن الخيال، فكل حلم يبني جزءاً من تلك المدينة، هنا يمكننا الحديث عن أحلام عزيزة وأمنيات جميلة وآمال مشرقة.

فنحن من ننتقي ومن ينصت للغة الكون ليكتشف السر! سر خارطة الطريق للوصول إلى مغارة الحلم أو الأمنيات، تحتاج الأمنيات إلى عمل دؤوب ومخلص، تحتاج إلى صدق وجهد وكدح. لكن لنكن صادقين، كم مليون شخص في هذا العالم يعملون بدأب وإخلاص وجهد جهيد، ويكدحون مع أول سقوط أشعة النور من عين الشمس، مع ذلك يغادرون الدنيا ولم يجدوا شيئاً قد تحقق من أحلامهم، يودعون الأحلام بكلمة »لم يحن الأوان« لماذا؟ العلم عند الله حتماً، لكن قليلون من اكتشفوا وتواصلوا مع سر الكون وخبأوه هناك في حانوت بعيد في قلوبهم!

المصدر: البيان