هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

حتى إشعار آخر

آراء

مهما حاولت أن تتحاشى الانزلاق في المعارك، سيأتي عليك وقت يدفعك لخوض إحداها. وحين تفعل احرص على أن تكون شجاعاً مقداماً. لأن بعض المعارك لا تقبل الهزيمة. فمسألة التهرب من المواجهة لتفادي الاصطدام، ليست قاعدة لتطبق على كل موقف في الحياة. فكثير من القضايا تتفاقم بسبب تجاهلها والتقليل من شأنها، فالنفس البشرية لا حدود لسمُوها، فحين تصل لمركز النور الداخلي، تشق طريقها بالارتفاع، لذا عليك أن تثابر من أجل قضيتك، مهما كانت ضخمة أو معقدة، فأنت ملزم بأن تُفْكِكَها وتعالجها، وأن تُبقي بين ذلك على روح المثابرة والإصرار، دون كلل أو ملل، فلا يصح أن تترك المشكلة في منتصف الطريق، ثم تتوقع أن تُحل بمفردها فقط لشعورك بالضجر أو بالتعب، ففي النهاية لا يحقق المرء ما يريد دون أن يدفع ثمنه، أو يبذل جهدا ويتكبد شيئاً من المعاناة.

وتلك المعاناة، تمثل دافعا لأكثر من كاتب على الاستمرار والعطاء، حتى لو لم تتوفر له الحرية والظروف المناسبة، يستمر بالكتابة والتعبير، في المساحة التي تتوفر أمامه، وربما يبتدع وسيلة لينير بها الطريق لنفسه و للآخرين، مهما كان موحشا أو مظلما، فالعقل البشري لديه القدرة على الإبداع تحت الظروف الصعبة، ومهما ضُيق عليه الخناق، أو قُلصت مساحة حركته، لن تمنعه تلك الضغوط من بناء مدينته الفاضلة، أو زرع أشجاره على أطرافها لتنبت في جميع الفصول، ليستمر في تأثيث المدينة، التي تتوق نفسه للعيش بها، وحين يفعل حتماً سيستمتع بعزلته الاختيارية. وربما يكون لديه من الأسباب، ما يمنعه من أن يُشرِع أبواب مدينته للآخرين. فهنا تكمن المتعة.

ولكن حين يتعثر الكاتب في مشاعره، ويسقط في بئر الاكتئاب، ولا يتدارك نفسه سريعا أو يحاول التعلق بالحبل الذي يتدلى أمامه، سيجد نفسه متكوماً في قاع البئر، بدلا من أن يبحث عن طريقه لينقذ بها نفسه، يتصارع مع صدمة فقدانه أبجديات التشبث بالحياة، بعد أن فشل في أن يطفو لمدة أطول فوق سطح الماء. ليس لأنه لا يجيد السباحة بل لأنه أهمل نفسه وتركها فريسه لينهشها الألم.

وعلاقة الكاتب تبدأ مع الكتابة مثل أي قصة حب في لحظة، ثم تتوطد مع مرور الوقت، إلا أنها لا تنتهي مثل النهايات التقليدية للحب، بل تتغلغل في مسامه، وتصبح هويته وشخصيته وتظل معه في علاقة أبدية. وطوال تلك العلاقة، يحاول كثيرا أن يخفي أحزانه وإظهار هموم الآخرين، ليتحاشى المنطقة الملتهبة التي كلما فكر من الاقتراب حولها تستعر بداخله. فيترك نفسه للصدف تقوده إلى مناطق وعرة ليكتشف بها حقائق جديدة، تدفعه بعضها من هولها للتشكيك بنفسه وبعينه وبجميع حواسه التي التقطتها بها، ومع ذلك يعرف بأنها حقيقة لا يستطيع أن يتجاهلها أو حتى يقلل من شأنها، والأمر الصعب الذي عليه أن يتخطاه أثناء نقله لتلك الحقيقة، أن يختار كلماته بعناية بالغة، وينظر لوقع خطواته فهو لا يعرف في النهاية أي خطوة ممكن أن تُفجر ساقه، وربما مستقبله بأكمله.

وأكثر الكتاب سعادة في وجهة نظري، الكُتاب الذين يعملون لحساب أنفسهم، وليس لهم رؤساء في العمل، إذ ليس بالمضطر أي واحد منهم أن يقدم مبررا لرئيسه عما كتب الليلة الماضية، أو من كان يقصد بعنوان مقاله، وليس ملزما بتقبل مزاجه السيئ، ونظراته المريبة حين تلتقي أعينهم فوق طاولة الاجتماعات، فكثير من رؤساء الكتاب، يخشون أن يكتبوا عنهم، لأنهم يعرفون بأنهم سيئون.

وفي حياتي المهنية صادفت مئات الرؤساء، الذين كان يصاب بعضهم بتوتر وقلق شديد، حين يكتشفون بأنني كاتبة رأي. ليس لشيء محدد، بل لشيء ما يخبئه كل واحد داخل نفسه ولا يعلم العالم عنه. ولكن شعورهم بالتهديد كان يدفعهم للبحث عن شيء، ليصنعوا منه مشكلة، حتى يبادروا بتهديداتهم، وإن لم يجدوا، يخرج أحدهم عن صمته ليفاجئني اليوم التالي، بأنه فهم كل حرف وكل سطر في أحد المقالات، ومتأكد بأنه كان المعني في الموضوع، إذ لديه قدرة على قراءة الكلمات التي كتبت بالحبر السري في الأسطر البيضاء بين السطور! والأمر الأسوأ أن يظل الكاتب يعمل تحت إدارة رئيس جاهل مثلا يعتقد بأن الكُتب مضيعة للوقت، ثم يُحاضر ساعات خارج موضوع الاجتماع ويسهب عن فوز فريقه المفضل!

ومن أجل توفير بعض من الحبر السري، التقي بكم بعد رمضان أو بعد إشعار آخر.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال. وكل عام وأنتم بخير.

المصدر: الشرق