خطباء وعلماء وحدّادون

آراء

في نهاية عمله سفيراً لباكستان في طوكيو، سجّل نجم الثاقب خان تأملاته في التجربة اليابانية، مركّزاً على موضوع العلاقة المتبادلة بين الهوية الوطنية والنهوض الاجتماعي. نشر الكتاب في 1993 باسم «التجربة اليابانية والبناء الوطني في جنوب غربي آسيا». وبعد عامين نشر بالعربية باسم «دروس من اليابان للشرق الأوسط».

لهذه التأملات قيمة استثنائية. فكاتبها جمع تخصصه العلمي في الاقتصاد إلى خبرة طويلة في سياسات التنمية والعلاقات الدولية، كما اهتم بمحركات التحول الاجتماعي في الدول النامية.

كان معظم دارسي التنمية الغربيين قد اختاروا منهجاً يعدّ التدين حالة سيكولوجية استاتيكية نوعاً ما، مشروطة بالظرف الاقتصادي – السياسي. ومن هنا، افترضوا أن الدين معوّق للتنمية. لكن تأثيره سينكمش كلما تعمقت قيم الحداثة في الحياة العامة. قليل من هؤلاء اهتم جدياً باحتمال التفاعل الإيجابي بين التدين والتحديث.

حين نُشر الكتاب باللغة العربية، كان العالم العربي يخوض الجزء الثاني مما سميت «مرحلة الصحوة الدينية». يومئذ كانت مسألة الهوية محور اهتمام الدعاة والحركيين، الذين اعتمدوا منهجاً يصور الانتماء الديني نقيضاً لكل انتماء آخر، ويصنف الحداثة على أنها «حصان طروادة» لمخططات غربية تستهدف تدمير الإسلام.

لاحظ نجم الثاقب أن اليابان مرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بالمشكلة نفسها، ثم تجاوزتها عبر مصالحة تاريخية، أثمرت صون الهوية التاريخية للشعب الياباني، والانفتاح – في الوقت نفسه – على تيارات الفكر والعلم التي يموج بها العالم الغربي.

يعظّم اليابانيون تراثهم إلى حد الهوس. وكانوا فيما مضى يرون أنفسهم أعلى أمم الأرض قيمة. لكنهم – مع ذلك – كانوا صادقين مع أنفسهم، حين أدركوا المسافة الشاسعة بينهم وبين الأمم الغربية، واكتشفوا أن قطار التقدم قد فاتهم أو كاد.

ويذكر في هذا السياق أن اليابان شهدت في بواكير نهضتها الحديثة، جدالات شبيهة تماماً بما عرفه العالم العربي، حول فائدة العلاقة مع الغرب والتحذير من مؤامراته، وميله الطبيعي لاستغلال الأمم الضعيفة، واستحالة الفصل بين العلاقة به والخضوع لهيمنته… إلخ. لكنهم في نهاية المطاف أدركوا أن تمجيد الذات لن يحمي جزرهم من غزوات الطامعين، الذين قد يأتون من أوروبا أو الصين، أو من غيرهما. إن قابلية البلاد للخضوع أو مقاومتها للغزو، رهن بأهليتها لإنتاج عناصر القوة الذهنية والمادية.

الطريق التي اتبعتها اليابان هو التعلم من الأوروبيين الأكثر علماً وخبرة. ولم يكن هذا بالقرار السهل. فقد تطلب إعادة موضعة لتراث راسخ، مشحون بامتداح الذات والتهوين من قيمة الآخرين. تم تقليد مناهج التعليم والتقنيات الأوروبية؛ بل إن مؤرخين ذكروا أن رجال الأعمال اليابانيين الذين زاروا أوروبا يومئذ، اهتموا بتسجيل كل شيء؛ من وصف المصانع والورشات، حتى الطرق والمباني وملابس الناس. لقد بدأوا بتقليد المتقدم، ثم أعادوا إنتاج تقنياته، ثم تقدموا عليه، كما هي الحال الآن.

يقدم نجم الثاقب خلاصة هذه التأملات في تصوير بسيط: الهوية والتنمية مثل فرس جموح وعربة ثقيلة، إذا رُبطا على التوالي، فستصل عربة التنمية إلى نهاية الطريق، وإذا وُضعا متعاكسين، فسيكسر واحد منهما الآخر، ولن نحظى إلا بالخراب. بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإن الاعتزاز بالهوية ينبغي أن يقودنا لاكتساب مصادر القوة؛ وأبرزها العلم والتقنية، حيثما وجدت. المجادلات الخاصة بأن هويتنا أعلى أو أحق، لن تحملنا على قطار التقدم. هذا القطار يحتاج إلى سكة يصنعها علماء وحدّادون؛ لا خطباء.

المصدر: الشرق الأوسط