جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

دموع على بلاط الحرم

آراء

رمضان كريم، شهر الصوم والعمرة أيضاً، تجربة العمرة في رمضان ممتعة وثرية، ويمكن أن تكون علاجاً لضغوط تكالبت علينا، من منا بلا ضغوط وذكريات أليمة؟ هل يمكن إفراغها أمام الكعبة؟ هل يمكن أن أتحرر منها وأنا أطوف وأسعى؟

ربما، ولكن يستلزم ذلك أن تنتقل من «عادات» العمرة إلى معانيها، تسمو إلى روحانية المكان ومخ العبادة، تتأمل معاني الأدعية المأثورة وتختار بصدق الأدعية التي تخصك، فتناجي ربك، خصوصاً أمرك، من طلب مغفرة ورزق وشفاء مريض، ورد حبيب، أو فقط أن يصبرك وينسيك هماً تحمله، ادعُ بالأدعية المأثورة وتأمل دقائق معانيها، ولكن أضف عليها أدعيتك، سمِ الأشخاص، ادعُ لهم ولا تدعُ على أحد، بل سامحهم وأنت تنظر إلى الكعبة، سامحهم بصدق، ولكن اصرف وقتاً أطول لمن تحب، اكتب ما تريد قبل دخولك للحرم، فهناك تضيع الكلمات، اختر مكاناً تستطيع أن ترى منه الكعبة، تأملها، إن لها هيبة غير عادية على بساطتها.

عندما تطوف لا تنشغل بما ترى غير الكعبة، لا تنظر إلى الأشخاص، بل انظر في معنى وجودهم هناك، حاول أن تذوب في مجموعهم، فتطوف معهم في حركة تنساب حول المركز، المركز هو الكعبة، الله، العفو، الوصول، الغفران، استمر بالطواف والتسبيح، والدعاء، استشعر الله عز وجل، إنه يسمعك، لم تكن قريباً منه مثلما أنت الآن، حاول أن ترى نفسك من عالٍ، كأن روحك فارقت جسدك وصعدت عالياً فتنظر إلى ما تحتها، إنها تراك وحدك وسط جموع تنساب بسرعة فتتداخل صورهم ولكن صورتك هي البارزة وسطهم، لأنك مشغول بنفسك، لا غيرك، مستحضر ذنبك، أخطاءك على الآخرين، كذبك، خداعك، كم وعداً أخلفت، تريد أن تبكي، افعل، لا تهتم بمن حولك، إنهم غير موجودين، أنت وحدك هنا تصعد وتسمو وتخاطب الله.

تريد منه بداية جديدة، هي لك، وعدك بها رسوله، عمرة في رمضان كحجة معي، كيف أخرج من هنا إلى دنيا تعج بالرغبات والشهوات والخطايا، بالكذب والحسد والحقد؟ ليتني أبقى هنا، ليتني أصعد إليه، بعيداً هناك في ملكوته، في هذه اللحظة تحديداً التي تطهرت فيها من أدراني، ولكن فجأة يسحبك أحدهم إلى دنياك من جديد، أكملنا الشوط السابع، يقول لك.

اخرج بهدوء، ابحث عن مكان تصلي فيه، هذه هي السنة بعد الطواف، ركعتان هما خلاصة تجربتك ونجواك في الطواف، تستمر في مناجاتك، هذه المرة وأنت ساجد، تسقط دموعك على بلاط الحرم البارد، تتحسسه بكفيك وجبينك الملتصق به، تسري في جسدك رعشة، تشعر كما لو أنه قوة ما تتصل بك، توجه لله بالدعاء لنفسك، اطلب منه الثبات والمغفرة، اطلب منه إيماناً لا ينقطع، اطلب منه أن يشعرك دوماً بحاجتك إليه عز وجل وأن يعيدك هنا، ادعُ لمن تحب وظلمت، اسأل الله أن يبلغه بحبك ويشعره بندمك، باعتذارك.

الله يُعطي عبده بحكمة، للكون ناموس وميزان، لن يغير لك التاريخ، فهو لا يخصك وحدك، ولو تغير لاختلت حياة آخرين، ولكن عنده الرحمة، يستطيع أن ينزل عليك الرضا والقناعة، من جهتك اخرج من الحرم وقد سامحت غيرك، سامحت كل من أخطأ في حقك، لعلك بعدها تدرك صفاء القلب وراحة الضمير الذي دخلت حرم الله قبل ساعات تبحث عنه.. ربما.

المصدر: مجلة روتانا